كما فعل من خلال عظته الشهيرة التي أطلق فيها مبادرة "حياد لبنان"، التي لا تزال مفاعيلها سارية، نجح البطريرك الماروني بشارة الراعي في خلط كلّ الأوراق على الساحة الداخلية، عندما دعا إلى "تدويل" الأزمة اللبنانيّة، عن طريق "طرح قضية لبنان ضمن مؤتمر دولي خاص برعاية الأمم المتحدة".

 

 

 

فاجأ طرح البطريرك الراعي الكثيرين في الداخل، باعتبار أنّ عبارة "التدويل" لطالما شكّلت "هاجسًا"، بل ربما "بعبعًا"، للكثير من أركان الطبقة السياسيّة، ممّن "يتوجّسون" من الفكرة، بمُعزَلٍ عن "حُسن النوايا" خلفها، ويوحون بأنّ أيّ استدراجٍ للخارج وتدخّلاته، هو بمثابة "استدعاءٍ" للمؤامرات والفِتَن الخارجيّة، على كثرتها وتنوّعها.

 

 

ولعلّ هذا الشعور ظهر، بشكلٍ أو بآخر، من خلال بعض المواقف التي أعقبت عظة البطريرك الراعي، سواء من خلال الزيارة "المُستعجَلة" التي قام بها وفدٌ من "التيار الوطنيّ الحر" إلى بكركي، للقاء "سيّد الصرح"، أو من خلال التسريبات المتتالية، والتي تقاطعت عند "استياء" فريق "العهد" من الدعوة، والقلق من تبعاتها السياسيّة والقانونيّة.

 

ما الحلّ؟

لكن، في مواجهة كلّ هذه الهواجس والاعتبارات، سؤالٌ واحدٌ يطرحه المؤيّدون لطرح الراعي، سواء عن قناعةٍ بأنّ "التدويل" قد يكون فرصة التقدّم الوحيدة، أو عن اعتقادٍ بأنّ كلّ الخيارات الأخرى استُنفِدت، ولم يعد من خياراتٍ أخرى مطروحة على الطاولة، وهو، ما الحلّ السحريّ الذي يمكن أن ينهي الأزمة اللبنانية المتفاقمة؟

 

ويذكّر هؤلاء بأنّ دعوة البطريرك الراعي هذه لم تأتِ من عبث، ولا من العَدَم، بل جاءت بعدما "بُحّ صوته" وهو يرفعه للأعلى، ويُقدّم الحلول، ويُطلِق المبادرات، ويستغيث المسؤولين للنظر بحال الشعب، من دون أن يجد مُجيبًا، وبعدما اصطدمت وساطته للحلّ الحكوميّ بالحائط المسدود، بسبب بعض "الأنانيّات"، فضلاً عن التمسّك بالشروط والشروط المُضادة، ما يحول دون أيّ احتمالٍ حقيقيٍ للعبور إلى منطقة الأمان.

 

وقد يكون كافيًا للدلالة على ذلك أنّ الراعي، بكلّ ما يملك من هيبة ووقار، "عجز" عن إقناع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري بالقيام بواجبهما البديهيّ، وهو الاجتماع للبحث بالتشكيلة الحكوميّة التي ينتظرها كلّ لبنان، بل قوبل برفض هذا "التنازل"، ومطالبة ذاك بـ "اعتذار" ليتجاوب مع الجهود، وكأنّ البلاد تعيش "ترفًا" يتيح هذا النوع من "الدلع السياسيّ"، إن جاز التعبير.

 

"آخر الدواء الكيّ"

وفي حين حاول البعض التقليل من طرح البطريرك الراعي، معتبرين أنّ الهدف المنشود منه هو إحداث "صدمة" بالمعنى الإيجابيّ، وقد تحقّقت جزئيًا من خلال المواقف الأولية التي صدرت عن بعض المسؤولين والمعنيّين، إلا أنّ المحسوبين على بكركي ينفون أن يكون الأمر محصورًا بهذه الجزئيّة، مشدّدين على أنّ البطريرك "جدّي" بدعوته وأكثر، وفق منطق "آخر الدواء الكيّ".

 

ولعلّ خير دليلٍ على هذه "الجدية" أنّ كلام البطريرك الراعي لم يأتِ معزولاً، لا في الزمان ولا في المكان، بل أتى "متناغمًا" مع لفتةٍ جديرة بالانتباه صدرت عن البابا فرنسيس شخصيًا، الذي دعا إلى تأليف حكومة وحذّر من أن تفقد بلاد الأرز هويتها الفريدة. كما أنّ مضمون مبادرة الراعي وجدت صداها سريعًا في الساحة المسيحية، وهو ما تجلّى في العديد من العظات، قد تكون أبرزها تلك التي صدرت عن رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر الذي وجّه انتقاداتٍ لاذعة للمسؤولين، واصفًا إيّاهم بـ "الطغاة والسفاحين".

 

وانطلاقًا من هذه المُعطيات، يؤكد العارفون أنّ البطريرك المارونيّ لن يتراجع عن دعوته المُستجِدّة، ولو أنّه يدرك أنّ "تدويل" الأزمة، بالمعنى الحرفيّ للكلمة، قد لا يكون خيارًا مُتاحًا في الوقت الحاليّ، استنادًا إلى بعض الاعتبارات القانونية والسياسية الدولية، إلا أنّه يدرك أيضًا أنّ صدورها عن موقعه، بما يمثّل من رمزيّة، له مفاعيله القانونيّة والسياسيّة والأخلاقيّة، التي قد لا يكون تجاوزها يسيرًا أو ممكنًا.

 

صحيحٌ أنّ العالم كلّه يقول للبنانيين "ساعدونا لنساعدكم"، وصحيحٌ أنّ الحلّ الفعليّ والحقيقيّ للأزمة اللبنانية المتفاقمة يفترض أن ينطلق من "لبنان أولاً"، بل هو يشترط وجود "إرادة لبنانية" حقيقيّة بالإنقاذ، وهو ما يتطلّب قفزًا فوق الحسابات الضيّقة والبحث عن مساحات التوافق، ولو بالحدّ الأدنى. لكنّ الصحيح أيضًا أنّ المعنيّين لم يُبدوا حتى الآن، أيّ استعدادٍ لتحمّل مسؤوليّاتهم الأخلاقيّة أولاً، ما قد يفرض مقارباتٍ أخرى، من البوابة الأخلاقيّة والمبدئيّة نفسها...