في أواخر عام 2010، قام باحثون من "معهد النظاميات الحيوية والتطور والتنوع البيولوجي بالمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي" في باريس باستكشاف عدة مواقع في شمال كمبوديا بدعوة من اليونسكو والسلطات المحلية؛ بهدف تسليط الضوء بشكل أفضل على التنوع البيولوجي بين الخفافيش المنتشرة في منطقة معبد "برياه فيهيار".
ويقول الخبير البيولوجي والأستاذ المحاضر في جامعة السوربون ألكسندر حسنين -في تقرير نشرته صحيفة "نوفيل أوبسرفاتور" (nouvelobs) الفرنسية- إن تلك المهمة مكنت الباحثين من جمع بيانات دقيقة عن عدد كبير من أنواع الخفافيش، بما في ذلك 8 أنواع من خفاش "حدوة الحصان" (Rhinolophus).
ويحظى هذا النوع من الخفافيش اليوم باهتمام كبير في الأوساط العلمية، لأنه يشكل حاضنا طبيعيا لفصيلة فيروسات "ساربيكوفيروس" (Sarbecoviruses)، وهي مجموعة من الفيروسات التاجية التي يندرج ضمنها كل من فيروس متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (سارس) المسؤول عن انتشار وباء سارس بين عامي 2002 و2004، وفيروس كورونا "سارس كوف2" المسؤول عن مرض كوفيد-19.
في ذلك الوقت، اتصل الباحثون بمعهد باستور في كمبوديا للسماح لهم بإجراء دراسات على الخفافيش التي تم الإمساك بها، وبعد تخزينها لمدة 10 سنوات في درجات حرارة تبلغ 80 تحت الصفر، تم اختبار هذه العينات مؤخرا من قبل باحثي معهد باستور في كمبوديا، بحثا عن فيروسات من نوع "ساربيكوفيروس".
ونجح الفريق فعلا في العثور على عينتين إيجابيتين بواسطة اختبار تفاعل "البوليميراز المتسلسل" (Polymerase Chain Reaction)، وتم إرسال العينات لاحقا إلى معهد باستور في باريس.
وبحسب الكاتب، فإن الأبحاث على خفافيش "حدوة الحصان" من نوع "رينولوفوس شاملي" (Rhinolophus shameli) التي تم الإمساك بها عام 2010 في كهف بمحافظة ستونغ ترينغ (شمالي كمبوديا)؛ كشفت عن فيروسين مشابهين إلى حد بعيد لفيروس "سارس كوف2".
وتمت تسمية الفيروسين "آر إس إتش إس تي تي 182" (RshSTT182) و "آر إس إتش إس تي تي 200" (RshSTT200).
وتم نشر نتائج البحث على موقع "بيوركسف" (biorxiv.org) المتخصص في العلوم البيولوجية.
ومن شأن هذه الدراسة المساعدة في كشف المزيد من المعلومات عن فيروس كورونا المستجد والتصدي لجائحة كوفيد-19.
اكتشاف مهم
يعد اكتشاف هذه الفيروسات في شمال كمبوديا أمرا مهما للباحثين، لأنها المرة الأولى التي يثبت فيها وجود فيروسات قريبة من سارس كوف2 خارج الصين.
وفي الواقع، تم سابقا اكتشاف هذه النوعية من الفيروسات لدى نوعين من الخفافيش التي تم اصطيادها في كهوف مقاطعة يونان (جنوبي الصين)، وتحديدا فيروس "آر إيه تي جي 13" (RaTG13) المشابه لسارس كوف2 بنسبة 96%، وعزل من خفاش حدوة الحصان نوع "رينولوفوس أفينيس" (Rhinolophus affinis)، وفيروس "آر إم واي إن 02" (RmYN02) المشابه لسارس كوف2 بنسبة 94% وعزل من خفاش حدوة الحصان نوع "رينولوفوس مالايانوس" (Rhinolophus malayanus).
يعني ذلك أن الفيروسات الشبيهة بسارس كوف2 تنتشر منذ عدة عقود في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا عبر عدة أنواع من خفافيش حدوة الحصان، وهي الفرضية التي يثبتها البحث الجديد.
وبحسب الكاتب، فإن معدلات الإصابات بفيروس كورونا تظهر أن سكان الدول القريبة من مقاطعة يونان، أي كمبوديا ولاوس وتايلند وفيتنام، أقل تأثرا بوباء كوفيد-19 من دول أخرى في المنطقة، مثل بنغلاديش وميانمار وماليزيا والفلبين وإندونيسيا، وهو ما قد يشير إلى أن سكان هذه الدول يتمتعون "بمناعة جماعية" (herd immunity) أقوى ضد فيروسات "ساربيكوفيروس"، وفقا للكاتب.
ما علاقة البنغول بالخفافيش وفيروسات كورونا؟
في العقود الأخيرة، انخفضت أعداد حيوان البنغول المنتشر في جنوب شرق آسيا بشكل كبير بسبب إزالة الغابات والصيد غير المشروع.
ويُعتبر البنغول الحيوان البري الوحيد -عدا الخفافيش- الذي يعثر لديه على فيروسات شبيهة بسارس كوف2، وحصل ذلك عندما ضبطت سلطات الجمارك الصينية العديد من الحيوانات المريضة في مقاطعة قوانغشي بين عامي 2017 و2018، وفي مقاطعة غوانغدونغ عام 2019.
وكانت لدى حيوانات البنغول المريضة حمولة فيروسية عالية جدا، وكانت شديدة العدوى. لكن السؤال الذي أُثير حينها: هل أصيبت تلك الحيوانات بالفيروس نتيجة احتكاكها بالخفافيش في بيئتها الطبيعية قبل أن يتم اصطيادها؟
وبحسب الكاتب، فإن اكتشاف فيروس جديد مشابه لسارس كوف2 لدى الخفافيش في كهوف كمبوديا يؤكد هذه الفرضية، حيث تم العثور على حيوان البنغول أيضا في تلك الكهوف. ويعزز ذلك الرأي القائل إن الإتجار غير المشروع بالبنغول هو الذي أدى إلى ظهور فيروسات مشابهة لسارس كوف2 في الصين.
خطورة مزارع آكلات اللحوم الصغيرة
تعتبر آكلات اللحوم الصغيرة (small carnivores) من الحيوانات الحاضنة لفيروسات كورونا، وفي الفترة المتراوحة بين عامي 2002 و2004، تم العثور على العديد من هذه الحيوانات المصابة بسارس كوف في أقفاص بالأسواق والمطاعم الصينية، ومنها زباد النخل المقنع (masked civet) وكلب الراكون (raccoon dog).
ويوضح الكاتب أن إصابة أحد هذه الحيوانات بعدوى عرضية في بيئتها الطبيعية لا يمكن على الأغلب أن يؤدي إلى انتشار وباء بين البشر. في المقابل، يمكن لحيوان واحد مريض في مزرعة تضم عددا كبيرا من هذه الحيوانات أن يتسبب في خروج الأمر عن السيطرة.
في عام 2020، أصيب حيوان المنك الأميركي (American mink) الذي يُربّى بأعداد كبيرة للإتجار بفرائه بسارس كوف2 في العديد من الدول، ومنها الدانمارك وإسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا واليونان وإيطاليا والسويد.
ومثل هذه الحالات تثبت -بحسب الكاتب- أن تربية أعداد كبيرة من آكلات اللحوم الصغيرة تشكل خطرا صحيا كبيرا، لأنه من المرجح أن ينتشر الفيروس بسرعة كبيرة في تلك المزارع، وأن يفرز سلالات جديدة أكثر خطورة على البشر من السلالة الأصلية.