في بلدي لبنان ما عليك سوى الانتظار على قارعة الموت. موتٌ بانفجار أو بجائحة أو بجوع أو باغتيال أو بقصف، لا فرق. فالموت الذي تحكم ملائكته هذه الرقعة من كوكبنا لا قيمة معه لكل أقانيم الحياة. قدرٌ أم لعنة، لا فرق. ففي الحالتين كُتب على هذا البلد أن يعيش المأساة تلو المأساة، والأزمة تلو الأزمة، والمصيبة بعد المصيبة، وأن يمضي اللبنانيون أيامهم ساحةً للصراع والأزمات من كل جهات الأرض.
وفي هذا السياق التراجيدي فقط تأتي جريمة اغتيال الناشط السياسي والباحث لقمان سليم. اغتيالٌ أعاد المخاوف والقلق من عودة مسلسل القتل السياسي وإستهداف قادة الرأي. والشهيد الذي كان عرضة للتهديدات في الآونة الأخيرة شكّل إغتياله صدمة على كل المستويات، رغم اعتياد اللبنانيين على تروما الصدمات المتتالية.
لم يأتِ اغتيال لُقمان سليم من خارج مسار دخول لبنان في مرحلة هي الأشد خطورة أسوة بالمنطقة التي تسيرُ على حبل رفيع في ظل التوترالامريكي الايراني، بانتظار أن يتقاطعا عند نقطة التقاء على طاولة تفاوض قد يطول الوصول اليها .
قد يكون من المُبكر الجزم بمغزى الاغتيال وتوقيته، لكن الاوساط الشيعية المُعارضة تعتبرُ أن الرسالة وصلت، تماماً والانطباع السائد أن هذه الجريمة ستُوضع في الأدراج إلى جانب الجرائم السياسية التي بدأت منذ محاولة اغتيال مروان حمادة حتى محمد شطح في الموجة الأولى من الاغتيالات، وستلقى المصير ذاته في ظل أجهزة أمنية مغلوب على أمرها، وقضاء ممسوك، وحُكم مهادن، وزعامات وقيادات سياسية مناهضة ارتضت التسليم والانحناء أمام رصاص التصفية الجسدية لضمان حياتها، أو حماية لما تبقى من وطن .
ذهب لقمان سليم مبتسماً ومجسداً باغتياله انتصار الدم على السيف لأن قاتلَه لم يستطع التغلب عليه إلا بالتصفية الجسدية. رحل نحَات الكلمة بعد أن هوى إزميل الحروف من بين يديه لكن ورغم الخسارة تبقى خلفه إرادة لن تُقهَر. إرادة الحياة التي مهما ارتفعت أسهم القتل والاغتيال والظلام لن تقوى عليها. صحيحٌ أن درب جلجلة اللبنانيين بات طويلاً جداً لدرجة لم تعد معها من قدرة على الصمود. لكن لن تكون الغلبة إلا للخيار الطبيعي في التنوع والتعدد والحرية والحياة.
وفي ظل التداعيات المأساوية لاغتيال لقمان سليم، ثمة من يعتبر أن الملف الحكومي بات أعقد بكثير، خصوصا مع ما يمكن أن تتركه جريمة الاغتيال من تأزم إضافي في المشهد السياسي، بعد صدور بيانات شديدة اللهجة محليا كما خارجيا.
مهما يكن من أمر، فإن الأكيد أن لبنان دخل مرحلة جديدة من الضغوط الأمنية، فأحداث طرابلس، التي اتت بعد حادثة كفتون الشمالية ايضاً، لم تكن سوى صندوقة بريد لرسائل متعددة المرامي والاتجاهات، كما كان أمس جسد لقمان سليم، وليس متوقعاً أن تقف الرسائل عند هذا الحد، بل قد نشهد فصولاً مختلفة منها .
إن جريمة الإغتيال هذه لايمكن وصفها الا بأنها رسالة متعددة الأوجه وتقاذف الاتهامات بشكلها المعتاد لن يجدي، وإن كان بعضه محقاً. الاتهام هو فعل يمارس أمام القضاء وأمام المؤسسات، وهي مغيبة في لبنان على المستوى الرسمي.
إنّ الفيروس الأمني لا يختلف كثيراً عن فيروس كورونا حيث لا مناعة لمنطقة دون أخرى أو لطائفة دون أخرى أو لحزب دون آخر. فالكلّ معرّض للإصابة بهذا الفيروس الذي هو الدلالة على الانهيار الشامل عند الجميع. انهيارٌ، الكلّ سيشارك بدفع أثمانه.
كما أننا نتعمد الغباء فعلا. فنحن ندرك تماما ذلك المرض الذي يصيب إراداتنا بفعل التعصب المذهبي والطائفي، ولكننا رغم ذلك، نحاول التذاكي من خلال كثرة التبريرات والإيجابيات، تاركين للذين حكمونا عبر السنوات، الإستمرار بالعبث بمستقبلنا.
وإلى جانب كل ذلك يا صديقي لقمان غبت جسداً لكنّ ذكراك ستحفر لزمن يطول في وجدان الرفاق والأصدقاء وداعاً أيها الفارس النبيل .