يميّز السيد المسيح ما بين الشريعة والكمال. فحين سأله الشاب عن ماهية الصلاح، أجاب المسيح قائلاً: "إنْ كنت تريد أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا (...) أمّا إنْ كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب وبع كلّ شيء لك وأعطه للمساكين فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني" (متّى 19، 16-22). المسيح لا يبطل الشريعة بل يعتبرها مرشداً إلى السلوك البديهي، أما مَن يسعى إلى الكمال فلن يبلغه بتنفيذه الشريعة فحسب، بل بالتزامه المحبة في كل ما يقوم به من أعمال.
يقول القديس بولس الرسول: "ما من أحد يتبرّر عند الله بالشريعة (...) بل صارت الشريعة مربياً يقودنا إلى المسيح" (غلاطية 3، 11 و24). إذًا، لا كمال في الشريعة، الكمال يكمن في الاقتداء بالمسيح. وفي هذا السياق يقول القديس كيرلّس الإسكندري (+444): "لقد علّمتنا الشريعة أن نجازي مَن يسيء إلينا، عملاً بالآية التي تنصّ على العين بالعين والسنّ بالسنّ. لكن يسوع علّمنا أن نتجاوز هذا الثأر متطلّعين إلى ما هو أسمى".
الأسمى الذي أتى به يسوع هو تأكيده القاعدة الذهبية للشريعة الجديدة: "كما تريدون أن يفعل الناس بكم كذلك افعلوا أنتم بهم، هذه هي خلاصة الشريعة والأنبياء" (متّى 7، 12). فبعدما كانت الشريعة الموسوية تقوم على مبدأ "العين بالعين، والسنّ بالسنّ"، أي على مبدأ المعاملة بالمثل وهو الأقرب إلى مبدأ العدالة، قَلَبَ يسوع هذا المبدأ رأساً على عقب حين قال إنّ المرء مدعوّ إلى أن يسلك انطلاقاً مما يؤمن به، فلا يتصرّف انطلاقاً من ردّ الفعل بل من الفعل النابع من اقتناع تامّ بصوابيّة مبادئه.
وصيّة "العين بالعين، والسنّ بالسنّ" قد تحقّق العدالة البشرية، أما "القاعدة الذهبية" فهي تبلغ بالسالك بموجبها إلى كمال المحبة. العدالة، وفق تعليم السيد المسيح، ليست هدفاً يتوقف عنده الساعون إلى الكمال، بل يتجاوز هؤلاء العدالة إلى ما هو أعظم شأناً، إلى النعمة والغفران والتخلّي عن كل ما يمكن أن يشدّ الإنسان إلى ترابيّته. ليس الكمال في العدالة، بل في المحبة المجانية.
القاعدة الذهبية، على خلاف الوصية الموسوية، لا تدعو الإنسان إلى الاقتداء بالإنسان الآخر الذي أساء إليه، بل إلى الاقتداء بالله وبالمسيح. فالمعاملة بالمثل تعني أحياناً الاقتداء بالأشرار ومبادلة الشرّ الشرّ. لذلك دعا المسيح أتباعه إلى أن يتحلّوا بالفضائل الإلهيّة وأن يسعوا إلى الكمال، إلى التألّه: "كونوا رحماء كما أن أباكم (الله) رحيم"، "كونوا كاملين كما أن أباكم (الله) كامل"...
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم (+407) ان ما من شيء يجعلنا نشبه الله سوى استعدادنا لمسامحة مَن أساء إلينا، وهكذا نكون قد فعلنا أفعال الله، لأنّ لله وحده سلطان مغفرة الخطايا وقد دعا الإنسان إلى مشاركته بسلطانه هذا.
ويتابع هو نفسه قائلاً: "إذا كان هدف المسيح أن يصبح الإنسان إلهاً بالنعمة بعدما صار الإله إنساناً، فما على هذا الإنسان إلاّ أن يقتدي بالربّ يسوع الذي صفح لجلاّديه وصالبيه والساخرين منه".
من هنا، لا نرضى بأن تحكمنا إلاّ شريعة واحدة هي شريعة المحبة، لأنّ ما نسعى إليه إنّما هو البلوغ إلى الكمال الإنسانيّ، إلى التشبّه بالله. أما الشرائع الأخرى فلا تكفينا ولا تلبّي ما نطمح إليه.