دعوني أكرر: سواءً كان التطبيع مباشرًا أو غير مباشر، موقفنا يجب أن يكون صارمًا ومساندًا للقضيّة كما هي الوصيّة القوميّة، لكن بشرط ألاّ نغذّي قطيعتنا العربيّة، فذلك يساوي تفرقنا أكثر وهذا يعني إفلاسنا التاريخي المشترك قبل (إفلاس) القضيّة نفسها!
 
- ما نراهُ الآن هو حلم إسرائيل وكابوس لنا، لكن في النّهاية ثمّة استفاقة على واقع واحد-
 
رحلة إلى «إسرائيل»: هل تقبل؟
 
في صيف ماضٍ، أذكرُ  بطاقات الدَّعوة المفتوحة لزيارةِ  إسرائيل  و-أقصد طبعًا المناطق الفلسطينيّة الّتي احتلّتها في محاولةٍ تهويدها وضمّها عنوةً إليها- وتلقّى عددٌ من النّجوم هذه الدّعوات، مقابل نشر صور  لهم على مواقع التواصل الاجتماعيّ وهم هناك، تشجيعًا على السّياحة التّهويديّة وتأكيدًا لما قد يسمّى بــ«صفقة القرن».
 
وبالفعل، استجاب البعض لذلك ونشروا صورًا لهم بالعلم الإسرائيليّ وعلّقوا تحتها بتعابير ترحيبيّة إسرائيليّة، ومن هؤلاء، النّجم البرازيليّ المعتزل رونالدينو، وبعض هؤلاء النّجوم لا يلامون على ذلك لأنَّ القضيّة لا تعنيهم ببساطة، والبعض الآخر  لا يهمّهم سوى المردود الماليّ الّذي يتقاضونه مقابل ما يرونه «خدمة تجاريّة» على حساباتهم الكبيرة بغضّ النظر عن المحتوى.
 
وممَّا يبدو أنَّ إسرائيل مستعدّةٌ لدفعِ أيّ ثمن مقابل الاعتراف بالتَّهويد الكامل للأراضِي الفلسطينيّة وامتلاك التّراث الفلسطينيّ كلّه، حتّى وإن كلّفها ذلك آلاف الدّعوات والرّحلات اليوميّة إلى الأراضي المقدّسة.
 
من الطَّائرات.. إلى القطارات!
 
الخطير الآن، ليس في الطَّائرات الّتي ستسافر بهؤلاء إلى «هناك» بل في القطارات، وأقصد تحديدًا قطارنا العربيّ الذي يدخل من جديد نفق التَّطبيع المظلم، بعدما حاول البعض تخفيف حمولةَ قناعاتهم تدريجيًا مع كلّ محطّة، وتخلّصوا من ذاكراتهم من نوافذ القطار. ولكنَّ الذَّاكرة الجماعيّة العربيّة والفلسطينيّة أثقل من نتخلَّص منها أو أن نتنصّل من مسؤوليتها ولا يمكن إلقاؤها من نوافذ اللّامبالاة ونحن ندخل نفق التَّطبيع.
 
قيس سعيد وتونس وقضيّة التّطبيع!
 
في هذا المقال، أحببتُ أن أسجّل موقفي مع موقف تونس الّتي أطلقتْ بيانا عربيًّا يرفضُ التّواطؤ مع المطبّعين ومع الدّول التي قد تطبّع أيًّا كانت، وتحديدًا أحببتُ موقف الرّئيس التّونسيّ قيس سعيد الذي ذكر  اسم بني صهيون، (الاسم الحقيقي للعدوّ  الّذي تهابُ جلّ الدّول العربيّة ذكره في بياناتها الرسميّة!)..
 
برغم أن هذه الخطوة أسعدتني لكن لا يكفي أن ترفض دولة التّطبيع أو أن تندد ببيان ضدّه أو أن تتخذَّ موقفًا محايدًا حتى وإن كانت الدولة الأخيرة الّتي تقف في وجه التّطبيعات. ورفض التَّطبيع لا يعني أن نعادي فورًا الدول العربيّة المطبّعة برغم كلّ أشكال الخذلان الذي سنعيشه (كما نرى التّهم المتراشقة بين الشعوب على مواقع التواصل) إذ حينها نساهم في تعزيز الصّراعات العربيّة بطعونٍ أكثر إدماءً. التطبيع هو الأداة ويجب أن نرفض أن نكون الوسيلة الّتي تساهم في تدميرنا الذاتي بتحقيق أهداف الاحتلال الصهيونيّ بالمقابل. علينا أن ندعو برغم ذلك إلى (وحدتنا) المفقودة ونشدَّ على عروتنا الوثقى الباقية. أليسَت محاولة الأعداء الأزليّة هي التّشجيع على تفرقتنا بالأساس ؟
 
 
التّطبيع في زمن الجائحة!
 
العزاء الوحيد، أن لتونس رئيسًا يؤمن بالقومية، وثمّن موقفا مشرّفًا في الوقت المناسب، فالدول الفاقدة لإرادتها سيادة وشعبًا لن تساوم في قضية التطبيع وستقبل التطويع بالمقابل، وأعي تماما قولي إنّنا مازلنا سنرى بعض الدُّول الجديدة الّتي ستجدُ في التّطبيع نوعًا من السّلام الدّاخلي لها، لا سيما في هذه الفترة الاقتصاديّة الحرجة التي نعاني منها عالميًا، وتحيّنت إسرائيل إغراء بعض إخوتنا العرب في هذا الوقت تحت أسر جائحة الوباء لتطويعهم إليها. ولئن كان بناء سعادة ما على حساب تعاسة الآخر، هي سعادة وهميّة، فإنَّ بناء سلام ما على حساب خراب الآخر، لا يمكن له أن يظلّ سلاما أبديًّا. بل هو محض سلام زائف!
 
 
لقد ذهبتْ هذه تلك الدول كما تذهبُ بعض الفراشات إلى النّور  وهي لا تعي لفرط الضّوء الساطع أنها ستحترق وتغدو جثثًا غُباريّة، وعندها ستكتشف أنّ الضَّوء البديل لم يكن ضوءًا في آخر النفق، وأن الضوء الاقتصادي و«رِبا» مشروع الاحتلال الّذي يعطى مقابل  أن نُطبّع يعني أن نقرضَ مزيدًا من أراضينا العربيّة، تماما كما أقرضْنا جزءًا من سُوريا وجُزءًا من لبنان إلى الأعداء مع فارق بسيط: لم تضئ سوريا ولا لبنان النّفق المظلم بكهرباء الخذلان بل فضّلاَّ شموع الكرامة، فالتَّطبيع يعني أن نقرض مزيدًا من كرامتنا المهدورة، والكرامة الّتي تُقرضُ للأعداء. لا تستردُّ بأغلى الهبات!
 
 
ما هو الطبق الرئيسي القادم لإسرائيل؟
 
 
الآن.. التَّطبيع المُضمر  لا السَّافر، هو الحرب الباردة لمشروع الاستيطان، إذ تحاول إسرائيل إشراك الدول غير المُطبّعة مع الدول المطبّعة بشكل خفيّ بل وإلصاق تهم الخيانة على ظهرها، ومثال ذلك، نشر  صفحة «إسرائيل تتكلم بالعربيّة» على إثر  رفض تونس للتطبيع، صورة للأكلة التونسيّة التقليدية «الكسكسي» وسط أيادٍ ملونة بأعلام المغرب العربيّ الكبير  كلّه ومعها يد إسرائيلية جائعة، ولم تكتفِ عند هذاالحد وعلّقت سائغة: «طبق الكسكس يجمعنا على الرغم من الخلافات السياسية مع بعض« معتبرةً أن اليونسكو قد صنّفته ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي، وهو ما جعل إسرائيل تشتهي تذوّق هذا الطّبق الرئيسي بإعلانها مشاركتنا حبّه كشعوب مغاربية!
فهل يعني ذلك أيضًا أنّ الطبق الإسرائيلي القادم هو  طبق مغربنا العربي؟
 
دعوني أكرر: سواءً كان التطبيع مباشرًا أو غير مباشر، موقفنا يجب أن يكون صارمًا ومساندًا للقضيّة كما هي الوصيّة القوميّة، لكن بشرط ألاّ نغذّي قطيعتنا العربيّة، فذلك يساوي تفرقنا أكثر وهذا يعني إفلاسنا التاريخي المشترك قبل (إفلاس) القضيّة نفسها!