لم تنجح المساعي والوساطات كلّها في استيلاد الحكومة العتيدة قبل عطلة الأعياد. عطلة سبق أن دخل فيها البلد والحُكم الى حدّ الشلل، وسط أزمات متفاقمة تنذر بفوضى قد لا يتمكّن أي طرف داخلي أو خارجي من السيطرة عليها. فهل إنّ العامل الخارجي هو الدافع الى هذا النفق؟ أم أنّ أمل البلد الوحيد في الدور الخارجي في وجه تعنُّت الأفرقاء السياسيين في الداخل، الذي أدّى وما زال يؤدّي الى تعثُّر الحكومة والدولة والبلد بكامله؟
بعد أن ضخّ الرئيس المكلّف سعد الحريري إثر لقائه الـ13 أمس الاول مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون منذ تكليفه، أجواءً تفاؤلية حيال ولادة الحكومة، واعداً بلقاءات متتالية مع عون للخروج بصيغة حكومية قبل عيد الميلاد، نسف هذه الأجواء أمس، بعد اللقاء الرابع عشر، متحدثاً عن أنّه لا تزال هناك «تعقيدات واضحة»، مؤكّداً وجوب أن تكون هناك حكومة بعد رأس السنة. وفي حين أشار الى دور سياسيين، قائلاً إنّهم يجب أن يتطلعوا الى وضع البلد، ما يعني، بحسب مصادر متابعة، أنّه يرمي كرة العرقلة لدى جهات سياسية، ولا سيما منها رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، تؤكّد جهات سياسية عدة، في المقابل، أنّ «القصة» بيد الحريري، حيث أنّ ولادة الحكومة مرهونة باتفاقه مع عون.
وفي حين يتحدث البعض عن أنّ الحريري يتعرّض لضغوط خارجية لتحجيم حصة عون وباسيل في الحكومة، وأنّ هناك دفعاً أميركياً لتقليص نفوذ «حزب الله» في الحكومة، إن من خلال حصّته الحكومية أو من خلال حصّة حلفائه، ولاسيما منهم باسيل، تقول مصادر ديبلوماسية، إنّ هناك تضخيماً للدور الخارجي لجهة تأليف الحكومة، مؤكّدةً أنّ الخلاف على الحصص، خصوصاً بين عون والحريري، هو الذي يؤخّر التأليف، فيما أنّ الخارج يريد حكومة في لبنان إنّما ضمن إطار المبادرة الفرنسية ومن دون أن يكون «حزب الله» مسيطراً عليها.
وتوضح هذه المصادر الديبلوماسية، أنّ الأميركيين مشغولون الآن بالوضع الداخلي وبالفترة الفاصلة بين انتهاء ولاية الرئيس دونالد ترامب وتسلّم الرئيس المنتخب جو بايدن الرئاسة، وبالتالي فإنّ الدور الأميركي في لبنان خلال هذه المرحلة سيكون بنحوٍ أساسي مسانداً للدور الفرنسي. فالأميركيون وعلى رغم اعتراضهم على «حزب الله» المُصنّف إرهابياً بحسب واشنطن، ليسوا متمسكين بأن لا يكون «الحزب» ممثلاً نهائياً في الحكومة، إذ انّ هناك واقعاً قائماً وفق ما يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو أنّ «حزب الله» هو حزب لبناني لديه تمثيل شعبي ونيابي واسع ولا يُمكن إلغاؤه، بل يُمكن العمل على تحجيم وجوده ونفوذه في الحكومة، بحسب المصادر نفسها، وبالتالي، فإنّ المفاوضات بين الأميركيين والفرنسيين هي على مدى تحجيم «الحزب». وتشير هذه المصادر الضليعة في الشأن الأميركي، الى أنّ همّ الأميركيين في هذا الإطار، هو أن لا يكون «حزب الله» مسيطراً على الحكومة، وأنّ هذه المسألة يُبحث فيها بين الأميركيين والفرنسيين وليس بين الأميركيين وأي مسؤول في لبنان مباشرةً، علما أنّ همّ الأميركيين الأكبر في لبنان هو ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، ما يتطلّب وجود حكومة. وإنطلاقاً من ذلك، تقول المصادر إيّاها، إنّ واشنطن قد تفرض عقوبات على شخصيات وجهات لبنانية في الوقت المناسب، والتي قد تكون جاهزة أساساً، وذلك إمّا لتأليف الحكومة، أو لدفع مفاوضات الترسيم قدماً وفق نظرتها، وإمّا لتحجيم «حزب الله».
مشيرةً الى أنّ هذه العقوبات منسّقة مع الفرنسيين الذين يتسلمون الملف اللبناني الآن، بل حتى أنّ الفرنسيين الذين يتعاملون مع الحُكم في لبنان هم من قد يحدّدون موعد هذه العقوبات.
وفيما لا يُمكن تأليف حكومة لا تنال رضى الفرنسيين والأميركيين، بحسب المصادر الديبلوماسية، تشير هذه المصادر الى أنّ هذا الأمر ليس بالجديد في لبنان، لافتةً الى أنّ أسماء عدد من الوزراء في الحكومة المقبلة موجودة في باريس وبالتالي مع الأميركيين. لكن هذا لا يعني أنّ عرقلة التأليف من الخارج، فشروط الفرنسيين والأميركيين باتت معروفة وهي: حكومة تنجز الإصلاحات المطلوبة ولا يُسيطر عليها «حزب الله». عدا ذلك يبقى التأليف رهن الداخل، وهو متعثّر الآن جرّاء الخلاف على «المحاصصة الوزارية».
وإذ يربط البعض عدم إبصار الحكومة النور حتى الآن بالسياسة الأميركية تجاه لبنان، القاضية بمحاصرة «حزب الله»، عبر منع دخول الدولار الى البلد، ما أدّى الى الأزمة الراهنة المتفاقمة، تؤكّد المصادر الديبلوماسية عدم صحة هذه النظرية، وأنّ لا حصار أميركياً، فلو كانت واشنطن تريد منع دخول الدولارات الى لبنان لاستخدمت سياسة العقوبات، تماماً مثل العقوبات التي فرضتها على المصرف المركزي السوري، بحيث لا يمكنه التعامل بالدولار أو إجراء أي معاملات دولية، فهكذا يمنعون ضخ الدولار، فيما ضخ المغتربون فقط عام 2019 في لبنان نحو 7 مليارات من الدولارات، وأدخلوا هذه السنة ما يتخطّى 4 مليارات من الدولارات.
وتؤكّد هذه المصادر، أنّ الأميركيين والفرنسيين لا يريدون انهيار لبنان، من دون أن يعني ذلك أنّهم يعملون على أن يعود لبنان الازدهار ومنارة الشرق الأوسط، بل إنّ معادلتهم تقضي بـ«لا انهيار ولا ازدهار»، لأنّ مصالحهم الخاصة تتأثر بنحو كبير في حال انهار لبنان. فالفرنسيون يتحدثون ويتحركون بإسم أوروبا، فكيف سيقولون للأوروبيين: «فشلنا»، وهناك أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ من «المسلمين» ينتظرون القوارب للهجرة الى أوروبا، في ظلّ الخوف الأوروبي من «أسلمة القارة»، فضلاً عن أن لا موطئ قدم لفرنسا في الشرق الأوسط الّا في لبنان. أمّا واشنطن فتريد ترسيم الحدود البحرية، وإذا كان لبنان منهاراً من سيوقع الاتفاق، فيما ليس ضرورياً أن يكون مزدهراً ليوقّع؟
انطلاقاً من ذلك، يقول الأميركيون والفرنسيون للمسؤولين في لبنان: «إجروا الاصلاحات لنمدّكم بقليل من المال ليقف البلد مجدداً، لكي لا ينهار ويخرج عن السيطرة، مثلما حصل أيام الحرب الأهلية. وبالتالي، إنّ هدف الأميركيين والفرنسيين الآن، هو أن يكون في لبنان حكومة وبُنى تحتية سياسية يتعاملون معها، وهم يبذلون كل جهودهم لكي لا ينهار لبنان. وهذا «أملنا الوحيد الآن»، بحسب المصادر الديبلوماسية.