في لحظة الانهيار اللبناني الكبير، يسأل كثيرون: إذا كان الحصار الأميركي والخليجي على لبنان لا يستهدفه تحديداً، بل يُراد منه تجفيف المنابع التي منها يحصل «حزب الله» على المال، ما يؤدي إلى إضعافه، فإلى أي حدٍّ نجح هذا الحصار حتى الآن؟ وتالياً، هل يتجّه فعلاً إلى تحقيق الهدف؟
تقوم مقاربة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للملف اللبناني على الآتي: إنّ وضعية «حزب الله» داخل السلطة، وما يتمتع به من نفوذ، ليسا شأناً لبنانياً بالكامل، بل هما خصوصاً انعكاس للمعادلة الإقليمية القائمة، وتحديداً لنفوذ إيران على الشاطئ الشرقي للمتوسط. ولذلك، ولأنّ المواجهة بين إيران والولايات المتحدة بلغت أعنف درجاتها، فإنّ لبنان يتعرّض للانسحاق.
ووفق النظرة الفرنسية، ليس مضموناً أن ينتهي الصراع بانهزام إيران و»الحزب». فالمواجهة قد تطول لسنوات وتشتدّ عنفاً. وقد يدفع لبنان ثمنها باهظاً جداً. وقد تسقط الدولة اللبنانية بالكامل قبل أن تُحسَم هذه المواجهة. بل إنّ إيران و«الحزب» قد يستفيدان من هذا السقوط لملء الفراغ والسيطرة بالكامل.
وفي رأي الفرنسيين، انّ من العبث اعتماد النظرية القائلة إنّ اللبنانيين قادرون وحدهم على مواجهة نفوذ «الحزب». كما أنّ «الحزب» نفسه ليس في وارد اعتماد أي خيار خارج التنسيق مع طهران.
ولذلك، في رأيهم، الحل الحقيقي في لبنان يجب أن يحظى بتغطية إقليمية- دولية. والأحرى أن تتمّ معالجة أزماته بالتسويات الظرفية والمساعدات حتى تأتي الحلول، وإلّا فإنّه سينسحق تحت وطأة المواجهة.
هذه النظرة كانت أساس النظرة التي اعتمدها ماكرون عندما تدخَّل لإيجاد مخرجٍ لأزمة استقالة الرئيس سعد الحريري في خريف 2017، وهي ركيزة لرعايته مؤتمر «سيدر» في 2018، وللتسوية التي حاول تسويقها مع الأميركيين منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين 2019، وللمخرج الذي يعمل لإنضاجه منذ كارثة 4 آب.
لكن هذه النظرة الفرنسية فشلت، ليس فقط لأنّ الأميركيين لم يعودوا مقتنعين باستمرار سياسة «الترقيع» في لبنان، بل لأنّ «حزب الله» نفسه ليس مستعداً لتقديم أي تنازل، ولو ظرفي، لاقتناعه بأنّ التنازل ستليه تنازلات أخرى، حتى يفقد كل أوراق القوة التي يملكها.
وتعتقد واشنطن، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، ومعها الخليجيون العرب، أنّهم لطالما تبنّوا النظرة الفرنسية إلى الوضع اللبناني، لكنها فشلت، وسمحت لـ«حزب الله» بتدعيم سيطرته على كل مفاصل الدولة والاقتصاد. ولذلك، في رأيهم، الأجدى هو تشديد العقوبات، ولو طاولت قطاعات لبنانية حيوية، لأنّ ذلك هو السبيل إلى تجفيف أقنية التمويل التي يتغذّى بها «الحزب».
ولكن، واقعياً، لا نظرية ماكرون «الناعمة» نفَعَت، ولا نظرية ترامب «الخشنة»: فـ«حزب الله» لا يتعاون مع التسوية الفرنسية، لأنّ إيران لا تريد إبرام الصفقة مع الوسيط الفرنسي بل مع الأميركي مباشرة.
وفي المقابل، «الحزب» لا يرضخ للعقوبات الأميركية، لأنّ إيران تراهن على الصمود والتفاوض مع إدارة جو بايدن، وتأمل في عودة واشنطن إلى الاتفاق حول النووي من دون شروط.
لكن نجاح إيران في هذا الرهان يبدو صعباً، لأنّ بايدن طالبها علناً، بعد انتخابه، بتقديم ضمانات جديّة للالتزام ببنود الاتفاق. وهذا يعني أنّ الخروج من مأزق الصدام الإيراني- الأميركي قد لا يكون قريباً، وكذلك نهاية الكابوس اللبناني.
لذلك، يتحسَّب «حزب الله» للأسوأ بتدابير تصاعدية:
1- في مرحلة العقوبات الأميركية الأولى، ومؤتمر «سيدر»، وبدء الحصار الأوروبي والخليجي، كان يستخدم الدولة اللبنانية والمؤسسات غطاء له، وكان يهمُّه إنقاذ المؤسسات ليضمن استمرار هذا الغطاء.
2- بعد انتفاضة 17 تشرين الأول ووقوع الانهيار المالي والاقتصادي والنقدي، أدرك أنّ المؤسسات ستسقط، وبدأ يحضّر للصمود من دونها.
3- المرحلة المقبلة، أي مرحلة الجوع والانهيار الكامل، هو يستعدُّ بكامل قوته، ومن خارج الدولة والمؤسسات، ليكون الأقدر على تحمُّل المصاعب الآتية.
في تلك المرحلة، حيث الليرة تصبح عديمة القيمة تقريباً، وحيث أجور القطاعين العام والخاص تكون قد تبخّرت، سيتقاضى عناصر «الحزب» رواتبهم بالدولار، ويحصلون على القروض المدعومة بالدولار، من نقاط الـATM التي ثبتها في مناطقه، وعلى المواد الاستهلاكية من التعاونيات بأسعار مدعومة.
وصحيح أنّ قدرات «الحزب» على استخدام القطاع المصرفي قد تراجعت بسبب الأزمة، لكن المصارف ليست القناة الوحيدة التي يحصل من خلالها على الأموال. وسبق للأمين العام لـ»الحزب» السيد حسن نصرالله أن قال: «أموالنا ليست في المصارف ولا ينفعكم الضغط من خلالها». ويعتقد البعض أنّ «الحزب» يستطيع تحصيل المال بسهولة من خلال المعابر المفتوحة في الاتجاهين.
منطقياً، وبناءً على الوقائع الظاهرة على الأرض، «حزب الله» سيكون في المرحلة المقبلة هو الطرف الوحيد القادر على الصمود، بفضل المخزون الذي يراكمه منذ أن بدأ يُحاصَر، فيما الناس والمؤسسات والقطاعات في وضعية الانهيار الكامل.
وفي العادة، السلطة والمال توأمان. مَن يملك هذه يحصل على ذاك، والعكس صحيح. وإذا كانت السلطة الفعلية في لبنان لـ«الحزب» فليس مستغرباً أن يمتلك المال أيضاً، وبمعزل عن الاتهامات الغربية له بالحصول على الأموال عبر العالم، بطرق غير مشروعة.
السؤال هو: هل سيقوم أحد بابتكار مَخرجٍ، بعد فشل النظريتين «الناعمة» و«الخشنة» في التعاطي مع «حزب الله»، أم سيُترَك لبنان لمصيره في المرحلة الآتية، حيث يكون الجوع و«اللاجوع» فوق سطح واحد؟