في بلدنا لبنان، يحقُّ للرؤساء والوزراء والنواب أن يتجاوزوا الدستور والقانون والأعراف، فهم يتمتّعون بحصانةٍ وافية تدرأ عنهم الكبائر والصغائر وحتى الشُّبهات، ولهم أن يصرفوا النفوذ ويُبذّروا المال العام بلا حسيبٍ أو رقيب، ولهم أن يُعيّنوا الأبناء والأحفاد والأصهرة والأقارب في مختلف القطاعات الحكومية والمؤسسات العامة التي تطالها أيديهم، ويمكنهم أن يثروا على حساب الشعب ويُكدّسوا الثروات دون أن يسألهم أحد: من أين لكم هذا؟ ويمكن للأصهرة والأبناء أن يُفسدوا في الأرض على وُسع رحبها، ويمكن لهم أن يُهملوا أبسط واجباتهم فيتسبّبوا بانفجار مرفأ بيروت النووي في الرابع من شهر آب الماضي، ومن أبسط حقوقهم أن يُعطّلوا انتظام المؤسسات الدستورية، فلا يؤلّفون حكومة، ولا يُصرّفون أعمال، ويرمون المراسيم والقرارات والأحكام في أدراج الإهمال والنسيان، فينهار البلد المنكوب أمام أعينهم دون أن يرفّ لهم جفن، أو يشعروا بوخز ضمير، تحترق الغابات والجبال، وتطوف الشوارع والساحات بالسيول، فتُحتجز الناس في البيوت والسيارات، ويخرج الشعب اللبناني عن بكرة أبيه مُنتفضاً مُطالباً برحيلهم، فلا ينزعج لهم خاطر، ويبيتون مُرتاحي الضمير، مُطمئنين على يومهم وغدهم ومستقبلهم، فالمادة ستين من الدستور ترمي الحصانة على رئيس الجمهورية، والمادة سبعين تُحصّن رئيس الوزراء والوزراء من التّطاول على مقاماتهم، والنواب يتمتعون بالحصانة النيابية،
إقرأ أيضا : حُطام دولة غازي كنعان تحتضر على أيدي الثنائي الشيعي-عون.
ونسي المشترع أن يسُنّ المادة الثمانين التي تُسقط الحصانات في المخالفات والجرائم العادية، وخاصة نهب المال العام والاثراء غير المشروع وصرف النفوذ، وتجاوز القوانين والتّفريط بالمسؤولية العامة، هذا في حين أنّ المواطن العادي لا يتمتع بحصانة " المواطن" التي تحفظ حقوقه، وتصون كرامته، فلا يموت أمام باب المستشفى لأنّ جيوبه فارغة، ولا يموت بحوادث السّير على الطرقات الخربة والمُظلمة، أو يموت صدماً بسبب عدم وجود جسور للمُشاة، ويمكن أن لا يجد مقعداً لإبنه في مدرسة رسمية، كما يمكن له أن ينتحر لأنه لم يستطع شراء منقوشة لابنته، وعليه أن لا يتجاوز القانون كأن يبني كوخاً مسقوفاً "بالإترنيت" يقيه برد الشتاء وحرّ الصيف، ويمكن للمواطن العادي أن يتعرّض للسجن بسبب عدم تمكّنه من تغطية شيك مصرفي، ويمكن أن يفقد حقوقه المدنية ويمنع من السفر بسبب تخلّفه عن دفع غرامة سير، المواطن العادي عليه أن يقف في صفوفٍ طويلة أمام الأفران وأمام محطات الوقود، وأمام المصارف، وفي طوابير طويلة أمام حواجز قوى الأمن الداخلي، وعليه أن لا يعجب كيف تحمي الحصانات الرئاسية والوزارية والنيابية كبار المسؤولين الفاسدين، ولا تؤمّن أبسط حقوقه وأسباب عيشه الكريم، وهو يسمع أنّ دولة العدوان الصهيوني تلاحق رئيس الجمهورية بتهمة التّحرّش الجنسي، وتسجن رئيس وزراء سابق بتهمة اختلاس مالي عندما كان رئيساً لإحدى البلديات، وتُلاحق رئيس وزراء حالي بتهمة تلقّي بعض الهدايا.
قال أحمد بن وزير القاضي: لمّا ولّاني المُعتزّ القضاء، قال لي: يا أحمد، ولّيتُك القضاء، وإنّما هي الدماءُ والفروجُ والأموال، ينفُذُ فيها حُكمُك، ولا يُردُّ أمرك، فاتّقِ الله وانظر ماذا تصنع.