"كل ما يُبالغ فيه هو أمر غير ذي أهميّة"
قول من القرن الثّامن عشر للسّياسي الفرنسيّ تاليران
تيك توك: منتجع الجُنون!
خلال فترة الحجر الصحيّ الطَّويلة، ارتفعتْ أسهم تطبيق المقاطع المُصورّة القصيرة «تيك توك» بشكلٍ كبير، إذْ قام عدد هائل من الأشخاص الجُدد، بتحميل هذا التَّطبيق بدافع الفُضول فقط في تلك الفترة. وحاليًّا يشير جوجل بلاي إلى أنَّ هناك أكثر من مليار تحميل للتَّطبيق.
بسرعةٍ خياليّة، أصبح تيك توك الأهمَّ والأكثر زيارةً من الرّواد الافتراضيين، ما جعل شركةً كبيرة تسعى إلى شرائه من مالكه والاستحواذ عليه.
كان كورونا سببًا مباشرًا بل وإضافيًا، في تحويل العالم إلى مستشفى مجانين حيث نرى منتهى اللاّعقل والسُّخْف المبرمج على إماتة العقل من خلال مختلف المنصّات الرّقميّة وأولّها هذا التّطبيق الماسح للمدارك العقليّة. بإمكاننا طبعًا أن نعذرَ ملايين النّاس اليوم الّذين لم يجدوا ما يفعلونه في بيوتهم غير تصفّح التيك توك –منتجع الجنون- ومشاهدة «هُبْل» مللِ كلّ شخصٍ على حدة في بيته، وأعترف أنّني كواحدٍ من هؤلاء الملايين، قمتُ بتنزيل التَّطبيق واستكشافه بدعوى الفُضول.
عالمُ المواهبِ الخرقاء!
مع تيك توك، لم أعد أعرفُ إن كانت الكتابة مازلتْ تسمى موهبةً ما، فهاهو طوفانٌ جديد من المواهب الّتي لا معنى لها ولا هدف ولا رسالة ولا مبادئ، تصبح هي في الصّدارة العالميّة لهذا التَّطبيق. إنه باختصار عالم المواهب الخرقاء الّذين قال عن أمثالهم نيتشه: « هؤلاء يكدّرون مياههم، كي تبدو عميقةً»!
(داخل هذا العالم الافتراضي إنْ كنتَ لا تستطيع الغناء لا مشكلة، بإمكانك أن تغنّي «بلاي باك» بصوت أيّ فنان تشاء وأن تعوّل على كاريزما نفسك، وإن كنتَ فاشلًا في ذلك، بإمكانك تمثيل أيّ مقطع قصير ، من أيّ مسرحيّة قديمة أو من أيّ فيديو، أو القيام بتحدّ ما، ككسر بيضة وترقّب ردّة فعل شخص كَسرتْ بيضًا في مطبخه، أو استعرضْ ما تملك من هواتف أو ملابس جديدة. وبإمكان «البسطاء» أن يظهروا بفلترات قطط أو كلاب أو مهرجين، هنا يمكن لكلّ شيء أن تقوم به مَهمَا كان تافهًا أن يسمّى موهبةً، وستجد شعبًا مختلف الأعراق والثّقافات واللّغات مهتمًا بك!)
أهنِئ مبتكر هذا البرنامج: هل تعرفون خطة أكثر استدراجًا وإدمانًا من هذه الطّريقة؟
نعم، بينما ينعمُ الصّيني «تشانغ يي مين» بثروته الخياليّة الّتي تفوق 75 مليار دولار أمريكي شهريًّا، يتمُّ يوميًّا تجهيل أكثر من مليار عقل بسخافات لا حدّ لها، بعدما وصل إلينا تيك توك تمامًا كما انتشرتْ الكورونا: من الصّين نفسها، لكنّنا كنّا الأسرعَ في الإصابة بعدوى التّتفيه وبفايرس «التخلّف العصريّ»، وما من أمل في إيجاد لقاح يعيد هؤلاء المجانين إلى رشدهم أو يفصل عنهم الأدوات التي باتت تباع خصّيصًا للظّهور بها في تيك توك.
ها أنا أرى كلمتي تيك توك تركضان كفكّ مفتوح يزدرد ويبتلع ما يرى من شباب.. تيك توك.. تيك توك.. تيك توك وها أنا أفقد القدرة على عدّ الضَّحايا الجدد!
«إطالة زمن المراهقة»؟
فوق تسخيف قيمة العقل، وإطالة «زمن المراهقة» إلى ما فوق الثَّلاثين من خلال هذا التّطبيق، فقد كانت سياسة تيك توك تعبيدًا لطريق لشهرة بأقلّ الوسائل الممكنة أو بالأحرى بلا وسائل، حيث يمكن لأيّ مستخدمٍ التّمتّع بمنصّة تداوليّة تضعه في الحال أمام الآلاف، وهاهم أكثر الناس تفاهةً يحملون بسرعة حسابات موثقة بالشّارات الزّرقاء كما لو كانوا حسابات شخصيات كبيرة، وهو ما يجعلهم يُغرقونَ في تقديم جديد الإتفاه كلّ يوم، وغدت بعض الشركات والمؤسسات والنزل والمطاعم تستقبل أكثرهم شعبيّة من أجل التّرويج التّسويقيّ وجلب اهتمام الزّوار وغيرها من المصالح التّجارية.
بالرغم من ذلك، صدمتي بالتأكيد لم تكن في مدى شعبية هذا التَّطبيق بل في استعماله حسب كل بلد. فللتفاهة أيضًا معاييرها ودرجتها في عالم التّافهين وأخبارهم!
حتى في تيك توك نحن الأكثر تخلفا!:
من جهةٍ أخرى كان لافتًا بالنسبة إليّ الفرق الكبير بين استخدام بعض الغربيين له واستخدامنا نحن العرب بالمقابل لمزاياه. معظم الغربيين يستخدمون التّطبيق كآليةٍ من آليات التّصوير، فيقدمون ومضة فيلميّة رائعة وتستحقُّ أن توثقّ، مغتنمين المزايا التّصويرية التي يتيحها، كإبطاء الحركة أو مضاعفتها أو في طريقة تقسيم الشاشة ومدى التّحكم في درجة الضوء وما إلى ذلك. بالمقابل يستخدم معظم العرب هذا التّطبيق فقط من أجل تحديات يرونها مضحكة أو من أجل تقليد أحدهم مرة ثانية على طريقتهم، وأعتقد أن ذروة الكارثة هي انضمام نجوم إلى هذا البرنامج فساهموا بشكل أو بآخر في هذا الانحطاط المباشر، وبهذا لم يعد ممكنا اتّهام مسؤول بعينه أمام تردّي الفئات الاجتماعية لحالة هي الأكبر من حالات الإفراغ العقلي.
بين تخريب الأوطان وتخريب العقول.. المال هو السبب نفسه!:
تصفّحي في تيك توك يذكّرني بما كتبه كارلوس رويث ثافون في روايته ظلّ الرّيح عندما يقول: "العالم لن يفنى بسبب قنبلة نووية كما تقول الصّحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحول العالم إلى نكتةٍ سخيفة".
وها نحن نشهد اليوم على منتهى التّفاهة. تفاهة نظاميّة ومبرمجة وجدوا فيها مربَضًا سوقيًّا يحققّ لتجّار الافتراضيّات الرّقميّة الأرباح الطَّائلة منها، بينما يتمّ تخريب عقول آخرين بالمقابل، تمامًا كما في تخريب الأوطان نفسها الّتي تُثري تجّار الحرب وتفقر الشُّعوب إلى الأدنى.
مفارقة مدهشة.. أليس كذلك؟
نظام التّفاهة وسيادة الرّداءة:
ختاما، أستعيرُ ما قاله «آلان دونو» في كتابه نظام التّفاهة الذي أطلقه قبل شعبية تيك توك كما الآن: "زادت شبكات التواصل الاجتماعي من التّفاهة، وصنعتْ عقلاً جماعيًّا من التّفاهة، وصار بإمكان التّافهين أن يكونوا رموزا من خلال عدد الإعجابات التي يحصلون عليها، ويلاحظ هنا تقلّص صور النّجاح التي تعارفت عليها البشرية والتي كانت معاييرها العمل الجاد والصّالح أو التّفوق، لصالح معيار واحد هو: المال".
ما يظلّ مقلقًا أننا بهذا التطبيق وبما سيطلقُ بعده نعيش تاريخًا جديدًا أعادنا إلى «محطة الجاهليّة» بدل التقدّم إلى «محطة الحداثة الحقيقيّة» بعدما سيطر «الصَّعاليك الجدد» من التّافهين على كل شيء وقلبوا القواعد العامة وغدوا هم الأهمّ من النّخبة والأوفر اهتمامًا، وهكذا ذهبوا بنا إلى أسوأ مكان في الانحطاط البشريّ الذي يسبب أزمة قيم أضحتْ رهينةً لخدمات السّوق الافتراضي الجديد نحو مأسسة ما هو أفظع من ذلك: سيادة الرداءة..
في هذا العالم الّذي قارب مقياس درجة الجنون فيه حدّ الانفجار، يبقى أن أحييّ النّسبة القليلة التي تبقّت من العقلاء.. فليس والله من بعدكم من قائدٍ لهذا الكوكب!