تزامناً مع زيارة وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط جيمس كليفرلي الى بيروت، كشفت مراجع ديبلوماسية انّ حكومة بلاده قررت قبل ايام سَحب عائلات ديبلوماسييها من لبنان والمنطقة على وَقع الضجيج القائم بين طهران وواشنطن وتل ابيب، ما أدى الى إنهاءٍ مُبكر لخدمات السفير كريس رامبلينغ في بيروت. وعليه، ما هي الرواية التي توثّق هذا التوجّه والمخاوف؟
أمضى كليفرلي، القادِم من بغداد، نحو 72 ساعة في لبنان، خَصّص خلالها ما يوازي 7 ساعات في لقاءاته مع 7 من المسؤولين اللبنانيين الكبار. وكان لافتاً انه أمضى ما تبقّى من وقت زيارته في جولات شاملة بين اللبنانيين، متفقّداً مرفأ بيروت والمنطقة المنكوبة ومراكز المراقبة على الحدود البرية مع سوريا، والتي بَنتها بريطانيا دعماً للألوية البرية التي شُكّلت لهذه الغاية. كذلك جالَ على عدد من المؤسسات الانسانية والاجتماعية التي ترعاها بريطانيا بتقديماتها المختلفة.
وعلى رغم من كونها الزيارة الأولى لبيروت، فقد شكّلت في شكلها رسالة واضحة الى المسؤولين اللبنانيين قبل الحديث عن مضمونها، لا سيما عند تخصيص كليفرلي معظم أوقاته للمجموعات الشعبية، بعدما وُصِفت لقاءاته مع السياسيين بالبروتوكولية والاستطلاعية، فيما دخلَ في كثير من التفاصيل خلال لقائه مع قائد الجيش العماد جوزف عون، معبّراً عن دعمٍ مطلق للجيش اللبناني من خلال برامج الدعم الجاري تنفيذها على مستوى الألوية البرية وفي المجالات الاخرى، لا سيما منها التدريب والتجهيز.
امّا في الشأن السياسي، فقد كان واضحاً انّ كليفرلي وَجّه، في مُجمل لقاءاته السياسية، مجموعة من الملاحظات حول أداء السلطة والعجز في تنفيذ الوعد بالإصلاحات. وان لم يَتسرّب شيء من محاضر جلساته مع المسؤولين، إلّا أنّ الناطق الرسمي باسم السفارة البريطانية كان واضحاً عندما أجرى توصيفاً للوضع السائد في لبنان عشيّة بَدء جولته الرسمية، فاعبتر أنّ الزيارة مهمة لتأكيد «دعم المملكة المتحدة لشعب لبنان»، وحَضّ السياسيين على «التحرك الآن لتحقيق الإصلاحات قبل فوات الأوان»، مُضيفاً، عند تعداده مجموعة الازمات في البلاد، انّ «لبنان يمر في حالة صعبة غير مسبوقة في تاريخه: جائحة فيروس كورونا، انفجار 4 آب، انهيار اقتصادي سريع، مأزق سياسي وغياب إصلاحات عاجلة». واعتبر أنّ هذا البلد «على حافّة الهاوية، وسيكون الطريق طويلاً لاستعادة ثقة الشعب اللبناني والمجتمع الدولي». وفي المجال الاقتصادي قال: «انّ لبنان يواجه أسوأ توقعات اقتصادية منذ الحرب الأهلية»، لافتاً الى مخاطر فقدان «الاحتياجات الأساسية للناس، كالغذاء والوقود والأدوية». واستشهَد بما جاء في تقرير للبنك الدولي، بما مَفاده: «سيعيش أكثر من نصف اللبنانيين في الفقر بحلول عام 2021».
وبعيداً من كلّ ما رافَقَ زيارة كليفرلي، فقد كشفت مراجع ديبلوماسية مطّلعة انّ الزيارة أعقبت في توقيتها إجراءات دبلوماسية وأمنية بريطانية جديدة تعني الديبلوماسيين العاملين في لبنان والمنطقة. ولفتت الى انّ قراراً صدر قبل فترة سَبقت زيارة الوزير البريطاني بسحب عائلات الديبلوماسيين الذي يعيشون الى جانبهم، ليس من لبنان فحسب بل من دول المنطقة، والعودة بهم الى بلادهم. وأضافت انّ السفير البريطاني في لبنان كريس رامبلينغ، الذي خضعت عائلته للترتيبات الديبلوماسية الجديدة، قد طلب إنهاء خدماته في بيروت بنحوٍ مُبكر، مُصرّاً على ان تكون عائلته الى جانبه حيثما حَلّ خارج أراضي بلاده. فقُبِل طلبه، على ان يبدأ جولاته الوداعية استعداداً للمغادرة في وقت قريب. وهو ما كان موضوع نقاش عابِر في اللقاء الذي جمع رئيس الجمهورية بالموفد البريطاني، فأشاد بعمل رامبلينغ ومحبته للبنانيين وما سعى إليه من توطيدٍ للعلاقات بين البلدين. شاكراً له رعايته كل أشكال الدعم والمساعدة التي تقدمها بلاده في الحقول الامنية والعسكرية والتربوية والصحية والاجتماعية.
وعند هذه المعطيات، توقفت مراجع سياسية وديبلوماسية لبنانية مَليّاً امام ما قَصدته الخارجية البريطانية والظروف التي أملت عليها اتخاذ مثل هذا القرار، الذي يشمل لبنان ودول الجوار السوري والايراني. ولذلك، توسعت في تحليلها لتوقيته ومضمونه، فلم تتمكّن من الفصل بينه وما تَشهده المنطقة من توتر نتيجة تصاعد التهديدات بين ايران والولايات المتحدة الاميركية واسرائيل بعد عملية اغتيال العالم الإيراني المتخصّص في مجال الطاقة النووية والصواريخ محسن فخري زاده الجمعة الماضي في مدينة أبسرد قرب طهران. وإذ توقفت هذه المراجع امام «السيناريو الهوليوودي» الذي حُكِي عنه في عملية الإغتيال وتحدثت عنه تقارير ايرانية عدة، أشارت الى اعتماد الموساد الاسرائيلي «تقنيات حديثة لم تستخدم من قبل في عملية معقدة للغاية»، فإنها رصدت ما تَبع الحادث الكبير من تهديدات صدرت على لسان كبار المسؤولين الايرانيين وفي «الحرس الثوري» تحديداً كما على لسان قيادات ومجموعات أخرى تدعمها إيران، وتنتشر في لبنان ومنطقة الشرق الاوسط والخليج.
ولم تُخف المراجع عينها في تحليلها للقرار البريطاني مخاوفها لمجرد انه صدر من لندن وليس من أي عاصمة اخرى. وذلك انطلاقاً ممّا هو معروف وثابت في انّ العلاقات المميزة بين لندن وواشنطن تَشي بكثير ممّا يمكن احتسابه بريطانيّاً بنَحوٍ مبكر. فهي تعتقد انّ بريطانيا هي من أولى الدول التي ترصد ردات الفعل الاميركية ومجرى عواصفها التي يمكن ان تهبّ في اتجاه اي حدث في العالم. وهي أمور يجب ان تؤخذ في الاعتبار وبكثير من الجدية، وخصوصاً في المرحلة الحالية التي تفصل بين نتائج الانتخابات الاميركية التي أدّت الى فوز جو باين وموعد مغادرة الرئيس دونالد ترامب المكتب البيضاوي. فهي مرحلة مرشحة لكل أشكال المفاجآت غير السعيدة التي يمكن ان يلجأ إليها ترامب لفرض امر واقع جديد يكبّل الإدارة الديموقراطية العائدة الى البيت الابيض بعد ولاية يتيمة للجمهوريين.
ولفتت المراجع الى انّ كل هذه القراءة المتشائمة لِما هو مرتقب في المنطقة لا تدعو الى القلق، على قاعدة انّ لبنان يحتسب ايضاً لِمثل هذه الأجواء. ولعل سلسلة التقارير الأمنية التي أدلى بها القادة الامنيون الأربعة في لبنان امام رئيس الجمهورية واعضاء المجلس الاعلى للدفاع في اجتماعه امس الاول، توحي بالمخاوف نفسها، وإن تعددت الاسباب والمعطيات. إلّا انها في الوقت عينه مُصمّمة على مواجهة هذه التهديدات والمخاوف المرتقبة منها، سواء كان مصدرها الاراضي السورية او اي دولة في العالم تصدر مثل هذه المجموعات، عدا عمّا هو مَرصود من خلايا إرهابية تعمل في الداخل بعدما تمّ تفكيك بعضها ورَصد أخرى لِشَل حركتها المُحتملة في ظل تسهيلات لم تكن متوافرة سابقاً نتيجة افتقادها للبيئات الحاضنة في لبنان.
وبمعزلٍ عن مثل هذه القراءات والتحليلات، لا تهمل المراجع السياسية والديبلوماسية أهمية اتخاذ كل الإجراءات التي تضمن الأمن للبنانيين والمقيمين على الأراضي اللبنانية. وهي رصدت تدابير اخرى احترازية اتخذتها سفارات عدة في بيروت ربطاً بالتهديدات المحتملة لإمرار المرحلة بأقلّ خسائر ممكنة، خصوصاً انّ البلد يعاني سلسلة أزمات أخرى قد تكون حافزاً لاستغلال ضحاياها في ما لا يريده أحد للبنان ومن لبنان.