أعطى مؤتمر دعم لبنان الذي عُقد عبر ″تقنية الفيديو″ بدعوة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مؤشرات خطيرة جدا حول تعامل دول العالم مع ″سويسرا الشرق″ وحصر نظرتها إليه بالجانب الانساني فقط، وليس ككيان دولة متعثرة بحاجة الى مساعدة أو إنقاذ، خصوصا أن المؤتمر تجاهل الدولة اللبنانية وكل مؤسساتها، وركز إهتمامه على الشعب من خلال المجتمع المدني.
لم يتعاط مؤتمر الدعم مع لبنان كدولة فاشلة فحسب، بل وجه الرئيس ماكرون ″مضبطة اتهام″ للتيارات والأحزاب السياسية التي لم تلتزم بخارطة الطريق التي رسمها في قصر الصنوبر بالرغم من موافقة الجميع عليها، وبالتالي لم يُصر حتى الآن الى تشكيل الحكومة او اجراء الاصلاحات المطلوبة الامر الذي يضاعف من مآسي ومعاناة شعب لبنان.
وإذ إنتقد ماكرون العقوبات الأميركية التي لم تساعد في تشكيل الحكومة، أكد أنه لن يتخلى عن لبنان وأن زيارته ستكون في موعدها، والتي في حال عدم تشكيل الحكومة ستقتصر على تهنئة الكتيبة الفرنسية العاملة ضمن قوات اليونيفيل بالأعياد، من دون زيارة أي مسؤول لبناني.
بدا واضحا أن مؤتمر الدعم وما تضمنه من مواقف كان في واد، والمعنيين بتشكيل الحكومة في واد آخر، حيث لم يسهم الحراك الفرنسي لدعم الشعب اللبناني في كسر الجمود الحكومي، أو في الدفع للسير قدما في عملية التأليف التي يبدو أنها باتت مرتبطة بعاملين أساسيين:
الأول داخلي يتعلق بالقيود المفروضة على الرئيس سعد الحريري وأبرزها السقف المرتفع لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي يحاول تحريك العصبيات الطائفية من خلال مواقفه التي تعيق تشكيل الحكومة.
والثاني خارجي يتمثل بالعقبات الاقليمية والدولية المعطوفة على التغيير المنتظر في الرئاسة الأميركية والذي يراهن عليه الجميع.
ومما يزيد الطين بلة في العامل الخارجي، هو غضب الأميركيين من عودة ترسيم الحدود مع العدو الاسرائيلي الى نقطة الصفر، والذي تمثل بزيارة الوسيط الأميركي جون ديروشيه الى رئيس الجمهورية حيث أبلغه بإنزعاج أميركا من عدم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في هذا الملف، كما زار قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي أكد له إلتزام لبنان بالخرائط التي يمتلكها، وقد أدى هذا التشدد اللبناني في ترسيم الحدود الى تشدد أميركي لجهة تشكيل الحكومة ما يعني أنها ستكون مؤجلة حكما الى حين دخول الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن الى البيت الأبيض.
من هذا المنطلق جاء تصريح مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم حول الظروف الخارجية التي لا توحي بتشكيل الحكومة، لكن الأخطر هو توقع اللواء إبراهيم بعودة الاغتيالات، وتشديده على “وجوب أن يأخذ كل مسؤول حذره لأن الأمور ضائعة بعد نتائج الانتخابات الأميركية، إذ أن هناك أجهزة كثيرة في المنطقة والعالم تجد اليوم أن الوقت ملائم لتصفية حسابات قد تصل الى حدود التصفيات”.
ما قاله اللواء إبراهيم يؤكد أن البلد أصبح مكشوفا أمنيا، وما أشار إليه الرئيس الفرنسي في مؤتمر الدعم يؤكد أن البلد أصبح مكشوفا إجتماعيا، ما يعني أن التوترات بكل أنواعها ستفرض نفسها في المرحلة المقبلة مع تنامي الأزمات وصولا الى رفع الدعم عن المواد الأساسية، ومع إنسداد الأفق الحكومي الذي ضاعف منه أمس دعوة رئيس الجمهورية ميشال عون خلال ترؤسه مجلس الدفاع الأعلى حكومة تصريف الأعمال الى تفعيل نفسها.
أمام هذا الواقع، يمكن القول إن لبنان دخل مرحلة التحلل، كيانا ومؤسسات، وصولا الى ضرب آخر الحصون المتمثلة بالقضاء الذي يستخدمه العهد لتصفية حسابات سياسية.
ففي ظل الجمود الحكومي، والتخبط الذي يسيطر على البلاد بطولها وعرضها، والأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والصحية والانسانية، وتهديدات البطالة والفقر والجوع، تطل القاضية غادة عون (ذراع العهد القضائي) بإعادة فتح ملف القروض المصرفية لعائلة ميقاتي، وهو يختلف عن كل الملفات المفتوحة والمطروحة عبر الاعلام، كونه ملف فارغ، ليس له أساس قانوني، وليس فيه إدانة ولا فساد ولا إفساد ولا إثراء غير مشروع ولا تبييض أموال، ما يؤكد أن الاستهداف سياسي وليس قانوني.
اللافت أن القاضية عون التي أحيلت الى التفتيش القضائي بسبب إصدارها بلاغات بحث وتحر خلافا للقانون، والتي يؤكد حقوقيون أنه “يغلب على قراراتها الطابع الانتقامي”، تعمل في كل فترة على تحريك ملف القروض المصرفية العائدة لعائلة ميقاتي علما أن ليس لها “الاختصاص المكاني” والقضية تحولت الى قاضي التحقيق الأول في بيروت، ما يطرح سلسلة تساؤلات لجهة: لماذا الاصرار في كل مرة على تحريك هذا الملف؟ وهل تتصرف القاضية عون من تلقاء نفسها أم أنها تنفذ رغبات مرجعيتها السياسية؟، ولماذا كل هذا الاستهداف للرئيس نجيب ميقاتي؟ هل لأنه الشخصية السنية القوية التي تريد “المنظومة العونية” إضعافها؟، أم لأنه يشكل خط الدفاع الأول عن إتفاق الطائف وصلاحيات رئاسة الحكومة؟، أو أن هناك عملية تشف مستمرة من ميقاتي لكونه لم ينتخب ميشال عون رئيسا ومن ثم دعا عقب ثورة 17 تشرين الأول الى تشكيل حكومة من دون جبران باسيل؟..