كتب المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي مقالة في صحيفة (الصباح) العراقية بعنوان: سلطة الفصاحة والنحو، بتاريخ الخميس12( نوفمبر) تشرين الثاني2020، دعا فيه إلى تجديد اللغة العربية، من حيث معجمها وقواعدها وأنظمتها وطرق تعليمها. واعتبر التجديد في اللغة هو محطة أساسية في تجديد العقل، وتلمس طرق جديدة للتواصل مع العصر العلمي الذي نعيشه. وهي دعوة قديمة بالمناسبة في الدراسات العربية، أكاد أزعم أنها ابتدأت مع ابن جني الموصلي ( 941-1002 م)؛ منذ أن ألف مدونته النحوية التي يتضمنها كتاباه: الخصائص، وسر صناعة الإعراب. وهو الذي عرف بالتخصص الدقيق في شرح شعر المتنبي. وأتصور بأنه أدرك البون الشاسع بين لغة المتنبي وبين قواعد النحو وسلطة النسق اللغوي، ودوره في إفقار اللغة الشعرية. وجاء بعده كثيرون، في مختلف مراحل تطور الدراسات اللغوية العربية. وساهم في هذه الدعوات التجديدية لغويون ونحاة وبلاغيون وفقهاء وفلاسفة ومتكلمون وعلماء اجتماع، قديما وحديثا. وبرغم ذلك وقع لبس كبير في تلقي مقالة المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي، وفهمت على أنها دعوة للتحلل من اللغة العربية ومن قواعدها ومن أنظمتها، ما اضطره إلى كتابة مقالة توضيحية في الموضوع، بعنوان: توضيحات على مقالة سلطة الفصاحة والنحو، نشرت بصحيفة الصباح، بتاريخ 19 (نوفمبر) تشرين الثاني2020. والحقيقة أن من يطلع على المشروع الفكري الواسع لعبد الجبار الرفاعي، ومن يتابع دراساته ومقالاته ومحاضراته سيلحظ بسهولة أن الرجل يكتب بلغة راقية وبعربية فصيحة، ونادرا ما يعترضك خطأ لغوي في متنه. ثم إن دعوة الرفاعي لتجديد اللغة العربية لاتنفصل عن الإطار العام والفلسفي الذي يؤطر مشروعه الفكري، بنزوعه التنويري والنقدي، كما تجسده مدونته النقدية: الدين والظمأ الأنطولوجي،والدين والاغتراب الميتافيزيقي، وإنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، ومؤلفات كثيرة، و72عددا مرجعيا متخصصا في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، من أعداد مجلة قضايا إسلامية معاصرة التي يديرها منذ 23 سنة ولم تتوقف.
في هذا السياق ارتأيت التفاعل مع ماكتبه أستاذنا الرفاعي بخصوص تجديد اللغة العربية، من خلال دعم علمي ومنهجيلمقولته، في بعض جوانبها، من خلال أطروحة المفكر المغربي محمد عابد الجابري في التجديد اللغوي، وفي دعوته إلى تجاوز سلطة الأعرابي الذي صنع العالم العربي, وهو موضوع شيق وجذاب لكن تتخلله ألغام معرفية ومنهجية كثيرة، يحتاج بحثه إلى دربة وإلى إطلاع واسع وإلى شجاعة فكرية، من دون أن ينقص ذلك من قيمة لغتنا ومن قدرتها على التجدد والتوليد الذاتيين والموضوعيين، وهو صلب دعوة أستاذنا عبد الجبار الرفاعي.
يبرر الجابري، رحمه الله، الاهتمام باللغة العربية في مشروعه الفلسفي، والقائم على النقد، من منطلق أن العربي يحب لغته حد التقديس، كما يستمد قوته من سلطتها عليه. وهو القادر على التعبير بها بأسلوب بياني راق ورفيع. وغير العرب، بنظره، أعاجم؛ لا يفصحون ولا يبينون.( تنظر المدونة النقدية للمرحوم الجابري: نقد العقل العربي، خصوصا الكتاب الأول: تكوين العقل العربي).
فالتعبير باللغة العربية، هو تعبير عن إنسانية العربي؛ إذ بالفصاحة والبلاغة تتحدد ماهيته، وليس بالعقل! هذا من الجانب السيكولوجي الذاتي، أما من الجانب الحضاري، فيرى الجابري أن اللغة والدين هما أهم ما قدمه العربي للحضارة الإنسانية التي أصبحت حضارة إسلامية، قبل أن تحدث تحولات أخرى. فالدين جاء في كتاب عربي مبين، وجعل علماء أصول الفقه، وهم المنظرون المنهجيون والمعرفيون للعقل المسلم، اللغة العربية جزءا من ماهية الدين. لذلك أضحت هذه اللغة أساس الجدل المذهبي والكلامي والفقهي، بما تتوفر عليه من "فائض" في الألفاظ، وبما يتوفر عليه اللفظ العربي من "فائض" في المعنى، وبما يميز التركيب اللغوي العربي من تنوع. كما وجدت الخلافات السياسية والاجتماعية التي وقعت في بداية تشكل دولة الاسلام، بعد وفاة الرسول (ص)، أرضية خصبة في اللغة العربية، بمطاوعتها وانفتاحها، بما يسند الرأي ويوفر له غطاء من البلاغة والاستدلال والدعم. ولا تقف أهمية اللغة العربية عند هذا الحد، بل كان العمل اللغوي أول عمل علمي منظم مارسه العقل العربي، بنظرة الجابري؛ أي "جمع اللغة وتقعيدها." هذا المجهود العلمي هو الذي أفرز "علم اللغة وعلم النحو." وتحول هذان العلمان إلى "بارادييغم" (نموذج معرفي)، للعمل العلمي اللاحق؛ أي الإنتاج العلمي وفق منهجية اللغويين والنحاة، من خلال مفاهيمهم وآلياتهم الذهنية، والتي أصبحت "أصولا" في النظر والمنهج، لتأسيس العلوم الإسلامية الأخرى، كعلوم الدين.
لذلك كله، تصبح اللغة العربية، مدخلا أساسيا في فهم العقل العربي، والذهنية العربية، بل والدين، والإنسان العربي، والواقع العربي. يدعم هذا، بنظر الجابري، ما تؤكده الدراسات المعرفية واللسانية الحديثة، من أن اللغة تساهم، بشكل أساس، في "تحديد نظرة الإنسان إلى الكون، وتصوره له ككل وكأجزاء." لذلك كان للغة العربية أثر كبير على العقل العربي، بل أثر خطير، خصوصا وأنها بقيت الوحيدة تقريبا، من بين اللغات العالمية الحية، محافظة على منظومتها، من حيث الكلمات والنحو والتركيب، منذ عصر التدوين. كما ظلت اللغة العربية إلى اليوم تجر معها تراث عصر التدوين ومفرداته. ومن خلال هذه الزاوية (اللغة العربية) تحددت أسس التفكير العلمي وأدواته، بنظر الجابري، في الثقافة العربية، فهي بذلك "محدد حاسم" للعقل العربي في بنيته ونشاطه.
ودعم الجابري، رحمه الله، هذه الأطروحة باجتهادات الفيلسوف اللساني الألماني هردر (1803 – 1744) Herder،والذي يلح على دور اللغة في تشكيل نظرة الإنسان إلى الكون؛ وبذلك تصبح اللغة ليست مجرد أداة الفكر، بل القالب الذي يتشكل فيه الفكر. لذلك ربط هردر بين خصائص اللغة وخصائص الأمة التي تتكلمها، وخلص إلى أن "كل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم" بل إن اللغة، في هذه الحالة، هي خزان تجارب الأمة بصوابها وخطئها، وتألقها وانحطاطها، تنقله الى الأجيال. وعندها تصبح أخطاء الأمة وانحطاطها من التراث الذي تنقله اللغة إلى الأجيال اللاحقة. بل تساهم تلك الأخطاء والانحطاطات في تحديد نظرة تلك الأجيال إلى الكون وإلى متعلقاته من خير وحق وجمال وعلم وواقع ... ولم يخف الجابري تضجره المعرفي من نتائج أطروحة هردر التي تقود إلى نزوع قومي مغلق، يعطي للقيم المجردة العليا بعدا قوميا، لارتباطها باللغة القومية، ولارتباط هردر ،نفسه، بظروف ألمانيا في القرن التاسع عشر لا يمكن تعميمها. وتبقى اللغة، وفق أطروحة الجابري، القالب الذي تفصل على أساسه المعرفة، كما يفصل الخياط الثوب؛ فاللغة ترسم الحدود لكل معرفة بشرية.
وهو نفسه ما أكده الباحث اللغوي والإثنولوجي إدوارد سابير( 1884-1939)E. Sapir، أحد المراجع المهمة في أطروحة الجابري؛ إذ توصل إلى أن أية جماعة تفكر داخل لغتها التي تتكلم بها، هذه اللغة هي التي تنظم تجربتها، بل وتصنع عالمها وواقعها الاجتماعي؛ وهو الإطار نفسه لأبحاث هردروهمبولد؛ أي أبحاث القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحتى العشرين؛ والتي لا تخرج عن أطروحة أن اللغة التي تحدد قدرتنا على الكلام هي نفسها التي تحدد قدرتنا على التفكير. وعليه، فبقدر غنى معجمنا بقدر غنى رؤيتنا، وبقدر فقره بقدر محدودية رؤيتنا وفقرها؛ فاللغة لا تعكس الظروف الطبيعية فحسب، بل تحمل معها هذا الانعكاس نفسه لتنشره على أمكنة وأزمنة مختلفة، وتكون حاسمة في تأطير نظرة أصحابها إلى الأشياء؛ لذلك، يرى الجابري أن قاموس (لسان العرب) وهو الأضخم في اللغة العربية والحاوي لحوالي ثمانين ألف مادة، لا ينقل لنا، على ضخامته هذه، أسماء الأشياء الطبيعية والصناعية، ولا المفاهيم النظرية وأنواع المصطلحات التي عرفها عصره، أي القرنين السابع والثامن للهجرة. فمادة هذا القاموس الضخم لا تخرج عن مفردات وحياة ذلك (الأعرابي) القح، الذي لم (يتعكر) صفو لسانه، ولم يخالط أهل المدن والحضر. لذلك كان ذلك (الأعرابي) بطل عصر التدوين. وهو الشاهد في اللغة، و يضع نفسه فوق القواعد اللغوية والأنظمة التعبيرية. فارتهان قاموس ضخم من حجم (لسان العرب)، لمفردات "خشونة البادية"، سد الطريق إليه أمام كلمات وتعابير ومفاهيم فلسفية ومصطلحات علمية، وأخلاقية، لا يراها الإطار المرجعي لعصر التدوين، وهو (الأعرابي)، صالحة لتدرج ضمنه، وهو الذي يضم لغة (الأعراب الأقحاح)! فوجب تركها وإهمالها.
ومازال هذا المبدأ المرجعي يؤطر حتى القواميس المعاصرة، فجاءت فقيرة بل ومشوهة للمعاجم القديمة. فاللفظ العربي الذي يعبر عن "صفاء الهوية العربية" وعن أصالتها، هو الذي اعترف له عصر التدوين بذلك؛ أي اللفظ الذي تكلم به (الأعرابي). وجمد هذا المعيار اللغة العربية وحنطها، فلم تساير الحياة الاجتماعية المتطورة والمتدفقة. فصنعت هذه الحياة لغتها،أو قل انتقمت من الفصحى بـ (الدارجة) والتي أضحت أغنى كثيرا من اللغة الفصيحة، مما أحدث تمزقا رهيبا في عقل العربي وفي وجدانه؛ إذ يتوفر على لغة عربية للكتابة والتفكير على درجة عالية من الرقي، من حيث آلياتها الداخلية، لكنها لا تسعفه للتعبير عن قضايا العصر من حيث المفاهيم والمصطلحات، خصوصا في الجانب العلمي والصناعي والتقني، وبعض الأحيان في الجانب الحضاري والفكري، في المقابل نملك قاموسا غنيا بالمفاهيم والمصطلحات التي عبر بها قدماء العرب عن قضاياهم أو القضايا المنقولة إليهم، مما يطرح سؤال التجديد اللغوي بإلحاح اليوم!.
لذلك تمدنا (الدارجة) بألفاظ ومصطلحات نعبر بها في مجال الأشياء الحضارية والتقنية، وفي غالبها مقتبس من لغات أجنبية أخرى مع بعض التكسير و(التحوير)؛ إلا أن هذه الألفاظ العامية لا تتيح لنا فرصة التعامل بها فكريا؛ إذ رغم غنى (الدارجة) من هذه الناحية، فهي لا توفر لنا الأدوات الضرورية للتفكير، إذ ليست لغة ثقافة وفكر. من هنا نجد أنفسنا أمام معادلة متناقضة: فصحى غنية داخليا، وفقيرة ظاهريا، و(الدارجة) فقيرة فكريا وداخليا، وغنية ظاهريا. لذلك يجد المثقف والطالب والأستاذ والباحث نفسه، بصفة عامة ، يعيش عالمين في الوقت ذاته، وجدانيا وعلميا، لكل عالم لغته الخاصة به. أما غير هؤلاء، أي غير المتعلم، فهو مسجون في (دارجة) ويتعامل مع أشياء لا يسميها أصلا، وإذا سماها فبألفاظ لغات أخرى أجنبية، محورة، تترك أثرا عميقا في عقله وفي بنيته الفكرية. وأما الذي يتكلم لغات أجنبية أخرى، فتتعدد عوالمه بتعدد لغاته، ويعيش معذبا داخل (ثلاثية تصورية) رهيبة؛ يفكر بلغة أجنبية ويكتب بلغة عربية فصحى، ويتواصل في المجتمع؛ في البيت وفي الشارع، وحتى في المدرسة وفي الجامعة بالدارجة.
وعليه، تبقى المادة اللغوية محددا أساسا لنظرتنا إلى العالم من حيث قوالبها الصرفية والنحوية، وكذا أساليبها البيانية. كانت علوم العربية (معجزة) العرب، بنظر الجابري، من حيث العمل الضخم الذي أنجز عصر التدوين، جمعا للغة وتقعيدا لها؛ إذ تم الانتقال بلغة كانت تقوم على الفطرة و"السليقة" و"الطبع"، لغة يصعب تعلمها خارج فضاء لغوي مثالي،بمصطلح اللسانيين، يشكله الأعراب والقبائل الذين يتكلمونها، إلى لغة، مضبوطة تتعلم وتكتسب بالطرق نفسها التي يكتسب بها العلم؛ من مبادئ ومقدمات ومنهج صارم.
فلقد نقل العمل الضخم لمدوني العربية، هذه اللغة من مستوى اللاعلم إلى مستوى العلم؛ إذ تم إنشاء علم جديد هو "علم اللغة العربية"، أبرز علاماته: جمع المفردات وإحصاؤها، وضبط طرق اشتقاقها وتصريفها، ووضع قواعد تراكيبها واختراع علامات رفع اللبس عن كتابتها... فنشأت لغة جديدة هي (اللغة العربية الفصحى). فورثت الأجيال لغة مضبوطة ومقننة وقابلة للتعلم، وقادرة على حمل الثقافة والعلم عبر الأجيال. وقد تميز العمل التدوينيوالتقعيدي الضخم للغة العربية، بنظر الجابري، بالمنهج الصارم المتبع والذي كان له تأثير كبير على كيان اللغة العربية الداخلي، حتى زاحمت الصنعة والدقة السليقة والفطرة. هذه الصرامة، والتي مثل لها الأستاذ عبدالجبار الرفاعي بالفصاحة والنحو، وأمثلتها كثيرة، هي المسؤولة، إلى حد ما، عن تحجيم اللغة العربية وتضييق قدرتها على التطور والتجدد، ولكنه يبقى منهجا دقيقا وسليما في منطقه الداخلي وفي خطواته. ويمكن التمثيل لهذه الدقة بعمل الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه (العين)؛ والذي عبر من خلاله عن عقلية رياضية فذة تناغمت مع حس موسيقي مرهف مكنه من استنباط أوزان الشعر العربي، وتأسيس (علم العروض)، مع ابتكار ترتيب حروف الهجاء انطلاقا من حروف الحلق إلى حروف الشفتين، مجسدا الارتباط التاريخي والعلمي والوجداني بين الموسيقى والرياضيات؛ الموسيقى التي كانت فرعا من الرياضيات. فقد وظف الخليل بن أحمد معرفته الموسيقية لاستخلاص القوالب – الخفية واللامرئية التي يصب فيها الشعر العربي، كما وظف تكوينه الرياضي لوضع قوالب نظرية وافتراضية، لها ارتباط بواقع اللغة، ووزع عليها النطق العربي، في إطار (الإمكان الذهني)، ولو لم يسعفه (الإمكان الواقعي)، إلا عند التحقق والتجريب؛ أي عند الانتقال مما هو صوري إلى ما هو واقعي، مستثمرا (نظرية المجموعات) في الرياضيات في مفرداتها الأولية قبل تطورها مع البحث الرياضي المعاصر.
وعليه، فمن الناحية العلمية الصرف، يرى الجابري أن منهج الخليل يضعنا أمام عمل علمي صارم ومنهجية منطقية وعقلية ورياضية راقية، ولكن من الناحية الواقعية، والواقع شيء والمنطق شيء آخر، فإن ذلك المنطق الصارم يقتل الحياة في الواقع، ويكون مدعاة إلى التحجر والجمود والتوقف عن النمو. فبقدرما كانت تلك المنهجية الصارمة "معجزة" حقا، بقدرما جعلت اللغة العربية (عاجزة) عن النمو والتطور. فقد حول ذلك المنهج الصارم اللغة العربية إلى صناعة تقوم على قوالب ثابتة وصلبة، ولكنها مفتقدة لإمكانية التطور والتجدد.
وإذا تذكرنا دور اللغة في بناء العقل وهيكلة الفكر، أمكننا إدراك خطورة منهج الخليل، ومن أتى بعده، وقد كانوا، تقريبا، عالة عليه، خطورة على العقل العربي؛منهج ينطلق من الإمكان الذهني، ويتعامل مع الحروف تعاملا رياضيا صرفا، فأصبحت اللغة صنيعة ذهنية وليست معطى واقعيا، بل تحولت المنهجية الصارمة، عند الممارسة، من جمع اللغة الى التماس الشواهد الواقعية للفروض النظرية، فاختلط ما نطقت به العرب مع ما لم تنطق به، وتزايدت شهوة الولع بالغريب، وحل القياس محل السماع، وأصبحت الألفاظ صحيحة لأنها ممكنة وليس لأنها واقعية؛ ممكنة ترد إلى أصل عبر (آلية القياس)، وغير واقعية لأن "الفرع" فرض نظري وليس معطى من معطيات التجربة الاجتماعية. هذه العملية، أي غلبة الممكن على الواقعي في اللغة، هو الذي ضخم اللغة العربية وجعلها ذات فائض من الألفاظ بالنسبة للمعنى، مما أثر على طريقة تعامل العقل العربي مع اللغةّ ذاتها؛ لغة هي التي صنعته، لغة جمدتها القوالب الرياضية والمنطقية التي اصطنعها الخليل ولم يطورها من أتى بعده، فأصبحت اللغة العربية محصورة الكلمات ومضبوطة التحولات، لغة لا تاريخية.
أكيد أن جمع اللغة العربية وتقعيدها تحكمت فيه الرغبة في محاصرة اللحن الذي تفشى في مجتمع أصبح فيه العرب أقلية، وسبب اللحن اختلاط الحواضر في العراق والشام بين العرب والموالي، فكان ضروريا طلب "اللغة العربية الصحيحة والفصيحة"، من الأعراب المحتفظين بفطرتهم وسليقتهم وسلامة نطقهم. كان هذا مبررا لسانيا وعلميا للتوغل في البوادي وطلب اللغة من "الأعرابي" القح. لكن هذا الأعرابي أصبح المتحكم في العلماء وينفذون مشيئته! وأصبح هذا الأعرابي هو الحكم في الخصومات والخلافات. ( ينظر: محمد عيد: الرواية والاستشهاد باللغة). بذلك بدأ يشعر الأعرابي بقيمته وأهميته، فاحترف بيع الكلام، ورحل الأعراب إلى المدن رواة للغة بثمن، خصوصا رواية اللفظ الغريب والموحش والقديم والنادر؛ إذ كلما كان الكلام قديما كان مقبولا ومطلوبا، فأصبح كل قديم علامة على الجودة عكس الحديث. بل كان ينظر إلى حالات التطور الطبيعي الذي تعرفه اللغة العربية، بما هو ضرب من الخطأ والانحراف، فحددوا الاستشهاد زمانيا بمنتصف القرن الثاني الهجري، وألفوا المصنفات في ( لحن العامة)، وفي ( لحن الخاصة).
كل هذا حول اللغة العربية، بنظر الجابري، كما ذكرنا إلى لغة لا تاريخية محصنة ضد التطور والتغيير الذي يقترحه التاريخ؛ فبقيت هي في نحوها، وفي صرفها، وفي معاني ألفاظها وكلماتها، بل وفي طريقة توالدها الذاتي؛ إذ رفعها الخليل، بمنهجه الصارم، والأعرابي بمعيارتيه المتعالية، فوق التاريخ! ثم إن الاقتصار على الأعراب في جمع اللغة ملأها بخصائصهم الذهنية وخصوصيات معاشهم الطبيعية والحسية لتفكيرهم ورؤاهم، وتسييجها بحدود عالمهم الإدراكي والواقعي المحدود أصلا، وزمانهم الممتد كالصحراء، زمن التكرار والرتابة. لذلك جاء قاموس اللغة العربية فقيرا بالمقارنة مع قاموس القرآن الكريم؛ هذا الأخير الذي همشه جامعو اللغة لصالح لغة الأعرابي! لذلك جاءت قواميس العربية القديمة أقل اتساعا ومرونة وتحضرا من لغة القرآن. وكان النص القرآني دائما أوسع وأخصب من المعاجم، وهي التي بخلت علينا بذكر أسماء الأدوات وأنواع العلاقات الاجتماعية التي عرفها مجتمع مكة والمدينة، وعرفها مجتمع دمشق وبغداد والقاهرة والغرب الإسلامي، وقد كانت مجتمعات حضرية وراقية.وليس غريبا إذن أن نجد من ألف في: (نحو القرآن)، وفي: (بلاغة القرآن)... بعيدا عن لغة الأعرابي؛ هذه اللغة التي أهدرت الكثافة الدلالية والمنفتحة والمطلقة للفظة القرآنية، هذه اللفظة التي تندرج ضمن الاستخدام الإلهي للغة في القرآن، وليس الاستخدام البشري (الأعرابي). (يمكن التوسع في هذه الفكرة الأخيرة ضمن المشروع الفكري للمفكر السوداني المرحوم أبي القاسم حاج حمد، خصوصا في كتابه: العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة ( 2004م)، وإبستمولوجيا المعرفة الكونية، ومنهجية القرآن المعرفية (2004م)؛ وهذا المشروع مدونة فكرية ونقدية أشرف الدكتورعبد الجبار الرفاعي على نشرها ضمن منشورات مركز دراسات فلسفة الدين، ببغداد، وسلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة.)
إن الرغبة في (تحصين) اللغة العربية من اللحن، أدى إلى تثبيتها في مرحلة حضارية وتاريخية بدائية وفقيرة، على قاعدة معيارية يتحكم فيها (أعرابي) جلف ومنغلق في عالم حسي ومحدود. فورثنا لغة فقيرة حضاريا وغنية بدويا؛ فقر تجسده المترادفات المرتبطة بالاشتقاق الصناعي على منهج الخليل بن أحمد الصارم، وبالسماع من القبائل المختلفة. فأصبحت لغة الأصل والمشتق أوسع من لغة الواقع. لذلك ظلت اللغة العربية تنقل إلينا، في معاجمها، عالما يزداد بعدا عن عالمنا، عالما بدويا نعيشه في أذهاننا وفي خيالنا وفي وجداننا، عالم يتناقض، يوما عن يوم، مع العالم الذي نعيشه، والذي يزداد غنى وتعقيدا، والحل أن نخرج (الأعرابي) منا، ونفتح الفرصة للغتنا للتجدد والنمو الذاتي والتطور؛ وهذا هو صلب دعوة أستاذنا الرفاعي ومغزاها.