أثناء متابعتي للبرنامج الروسي الذي يعرض على القناة الأولى تحت اسم "اللعبة الكبيرة" لكون البرنامج سياسي يعالج القضايا العالمية والأزمات الجديدة طبعا بما تعكس هذه الأزمات نفسها على السياسة الروسية.
ولكوني متابع للبرنامج الذي يقدمه "فتشيلاف نكانونف "أحد الاكاديمين الروس هو دكتور في التاريخ والسياسية ، وعميد سابق لكلية الاقتصاد في جامعة موسكو الحكومية ، ونائب في البرلمان الروسي ، وايضا لطبيعة اختياره للمحاورين.
فإننا نجد انفسنا أمام معالجة فعلية لقضية مطروحة يراد من خلالها توضيحها للمتابع وانعكاسها السلبي أو الإيجابي على الدولة من خلال متابعة وجهات النظر المختلفة في الشرح والتفاصيل التي يمتلكها كل واحد من الضيوف نتيجة الأسئلة الواضحة التي يطرحها المحاور الذي يدير البرنامج.
فالمشكلة لا تكمن بالمطولات التي يقدمها المحاور ويحاول أن يقنع الآخرين بفهمه ومقاطعته التي تدل على ذلك أو لجهة الضيوف المشهود لهم بعمق التحليل والقدرة على إيصال الرسالة بالوقت المخصص لهم أو من خلال الإعداد الجيد للحلقة.
عند الاطلاع على البرامج الحوارية العالمية التي تلفت النظر بإعدادها وتركيبها واختيار الأفكار المراد التحاور بها، فعند الاهتمام بطبيعة المحاور والسيرة الذاتية له، والاطلاع على نوعية الضيوف وطبيعة الأعداد المسبقة للبرامج فإنك تقف في حيرة مقارنة بالبرامج الحوارية العربية التي باتت تعاني من أزمات كثيرة نتيجة الأعداد الكبيرة من الفضائيات والتلفزيونات التي باتت عبء فعلي على عقول المواطنين.
مما لا شك فيه بان البرامج الحوارية العربية باتت تعاني من أزمة فعلية من خلال التعامل معها على الشاشات العربية عامة والفضائية خاصة.
فهل المشاهد العربي بات أمام مشكلة فعلية في تقديم البرامج لجهة المضمون والنوع في عملية التقديم والتي ستنتج أزمة في البرامج أو في التقديم.
فلإجابة يمكن أن تضم الاثنين أزمة التقديم وأزمة البرامج المستنسخة من أجل تعبئة الهواء وتشتيت افكار المواطن بحوارات فارغة من المحتوى.
لذلك تعاني الفضائيات العربية من تضخم في استنساخ العديد من الفضائيات والتلفزيونات التي تريد من خلالها الالتفاف على كمية كبيرة من المشاهدين وجلبها لصفها في حربها الدائمة على الاستئثار برغبة المعلنين لكونها تملك أكبر جمهور من المشاهدين.
لكن القصة تكمن بتغيب عمل التلفزيونات المتخصصة التي تقدم للمشاهد جزء معين من الاختصاص الإعلامي ، مما يدفعه لمتابعة المعروض المخصص ، فالإعلام التخصصي واسع ولا يقتصر على نوع واحد من الوسائل الإعلامية المستخدمة بل يشمل التلفزيونات ،فهذا التخصص الذي لايزال بعيدا عن تفعيله على الشاشات .
فالقضية الخطرة التي يطرحها الإعلام العربي بشكل عام هي نفسها المتعلقة بشخصية المحاورين الذين وجدوا بالصدفة وحلقوا بعالم النجومية الفارغة والتي تفرغ الموضوع عن محتوياته ومضمونه ، وربما نحن في لبنان خير دليل على هذه الأزمة التي يعيشها الإعلام التلفزيوني لجهة البرامج والإعداد والضيوف.
فالبرامج كأنها منابر للصراخ والشتائم والتبجيل التي تخرجها عن طبيعتها وتعطل دورها وتبعد المشاهد عنها.
لم تعمل البرامج على تطوير مقدميها وتدريبهم بحسب التطورات العالمية من مبدأ فن الحوار الذي لا يزال النمط الكلاسيكي الممل مسيطر عليه، بالرغم من محاولات الاستنساخ عن البرامج الاجنبية التي تصطدم بالقدرات الشخصية للمعدين والمذيعين.
فكيف يمكن للمحاور أن يكون المحاور والمعلق والمساجل ، وكذلك يتم تعطيل الوقت لصالحه من خلال المداخلات الخارجية المقصودة المطولة التي تبعد الضيف عن النص حين يدخل في تفاهات السجالات الفارغة ؟ وكيف يفتح الهواء للمداخلات التي تبعد الموضوع عن نصها الأصلي.
لا يمكن للحوار أن يبسط بطريقة تختزل فيها الأفكار المطلوب توضيحها من خلال مذيع الصدفة الذي يسمح لنفسه بان يطرح أسئلته بمعلقات شعرية كي يشير للآخرين عن نفسه .
فالفهم والتحضير الجيد ، والقدرة العالية يختصران من خلال السؤال الصغير الذي يمكنه استخراج المعلومات المطلوبة من ضيوفه بطريقة راقية .
فليس مهمة المحاور المقاطعة والدفاع المميت عن الآراء الأخرى بحجة أنه محامي الشيطان وعليه احترام الآراء الغائبة، فالغائب حجته معه ويمكنه في المرة القادمة التعبيير عن نفسه .
المعد الجيد لا يطرح في حلقته اسئلة تبعد الموضوع القيم عن مناقشته مع ضيوفه الخاصين لكون القضية قضية متعلقة بالتنفيع المالي الخاص أو فتح باب الحوار للصديق الذي يصبح محللا سياسيا وهو صحافي أو مراسل في نفس الحلقة .
وكان مهمة البرامج الفضائية والمحلية واضحة في تعبئة الفراغ من خلال الاستضافة الفارغة التي تفرغ البرنامج من محتواه، مما يساعد ذلك على هجرتها والابتعاد عنها والتفتيش عن غيرها ، فالمشكلة في القنوات بانها لا تتعلم من الاستضافات والدعوات الموجهة للضيوف الضعفاء في إيصال الرسائل للجمهور.
وكانه يوجد في الجو الإعلامي شركات خاصة تسويق للأشخاص وترويجهم دون الانتباه لمدى انعكاسات هذه الاشخاص على البرامج الحوارية السياسية والثقافية والقناة نفسها، فهل هي مهمة الأشخاص في القنوات الذين يعملون على الاستضافات أو التعامل مع الشركات للاستضافات ..
لنأخذ كيف تعامل الإعلام اللبناني مع شخصيات معينة في فترة الثورة وروجها على أنها شخصيات فاعلة في الثورة ، وفتح لها الهواء وعمل على دعوتها إلى البرامج مع شخصيات من الدولة ، مما سبب الإعلام بقصد أو غير قصد مشكلة للثورة وطروحاتها.
فكيف يسمح لصحافي ينهي شهادة البكالوريوس مبتدأ في قناة محلية أو فضائية لا يمتلك شيء من الخبرة الزمنية في المهنة الإعلامية من الاطلالة على أنه ضيف في حلقة وبنفس الوقت هو محاور في برنامج آخر ، ومراسل في نشرات إخبارية أو تغطية ميدانية.
إذن كيف يمكن لمحطة عريقة استضافة كاتب أو كاتبة مقالة في صحيفة محلية ليحلل ما كتبه، بتغياب المصادر الواضحة عن مقالته أو بإشارة لعدم تحديد المصدر بأنه مجهول مما يترك آثار سلبية عن حقيقة ومصداقية المتابع للمعلومات ، بالوقت الذي يتم اعتماده في الكتابة على مصادر غير واضحة أو من خلال أخذ عينات محددة من مكتبه بالهاتف لشخصيات معينة كونها على صلة بالموضوع ليكون ذلك تحقيق يستضاف كاتبه للحوار السياسي أو الاقتصادي. أو لغيابه عن معاينة القضية المطروحة استقصائيا التي تكلف هذه العملية الميدانية الإعلاميين فترة زمنية معينة من خلال المعاينة والمشاهدة والتواصل والتحقيق بالمعلومة التي تعطي مصداقية للعمل الإعلامي.
فالمشكلة الإعلامية تكمن بالوصول إلى المعلومات والتأكد من مصدرها وإعلانها حتى يمكن الاعتماد عليها كونها من مصدر حقيقي وتصبح مصدر موثوق.
فالموضوعية والمصداقية والآنية هم أساس المعلومة الإعلامية وبالتالي كاتب أو كاتبة المقالة التي يتم استضافته من الفئة الصغيرة هم فاقدو المصداقية التي تتحمل تبعيتها القناة دون الانتباهاذا غيبت المصدر.
كيف لقناة تعمل على استضافة شخصية في برنامج يكون فيه المراسل محللا سياسيا غير مقنع للآخرين نتيجة توجهاته وارتباطه وعلاقاته وغياب مصداقيته الإعلامية.
فهذه الأمور كله تفقد البرامج الحوارية مصداقيه متابعتها نتيجة الغياب الكامل لمعالجة القضية بكامل طروحاتها.
بالإضافة إلى استدعاء ضيوف غير متوازيين بالطرح في الحلقة مما يسبب اختلاف في معالجة القضية ،والتي قد تؤدي إلى خلاف وعراك دائم وشتائم بين الطرفين وخاصة الذين مهمتهم تقتضي فقط بالدفاع والصراخ لكي يبرهنوا للطرف المدافع عنه بأنهم خادم أمينين بظل تغيب كل المعايير الأخلاقية والسياسية والأدبية والإنسانية أثناء الحوار.
فهل سيتعلم الإعلام العربي من تجربة الإعلام العالمي في عملية الحوارات الجريئة والمباشرة في معالجة القضايا بأقل وقت والتركيز على المضمون ، من خلال التركيز على القضايا المطلوب توضيحها.
مثلا بتاريخ، 8 آب من العام 2020، لنرى كيف كانت مذيعة شبكة سي إن أن الأميركية بيكي أندرسون تتعامل في مواجهة رائعة مع رئيس التيار الوطني الحر، ووزير الخارجية اللبناني السابق، جبران باسيل، خلال المقابلة التي شكلت إحراجا للوزير السابق بالإضافة إلى التقرير الأممي الذي اختصر الأزمة اللبنانية كلها بدقائق وبردة فعل اللبنانيين بالتظاهر.
حيث قالت أندرسون لباسيل، متحدثة بصوت اللبنانيين: دعوتك إلى برنامجي، ليس لأنك تمثل صوت اللبنانيين، بل في الواقع لأنك لا تمثلهم. . بالنسبة لملايين اللبنانيين أنت تمثل محاباة الأقارب وفساد نخبة حاكمة أغرقت البلد في حفرة من اليأس.
ودعوتك ليس كرئيس أكبر كتلة برلمانية وصاحب نفوذ كبير في الحكومة. . دعوتك بصفتك المشرف على وزارة أغرقت البلاد في نصف الدين العام ومنعت الكهرباء عن اللبنانيين لأكثر من عشرين ساعة في النهار. .. دعوتك إلى هنا لأسألك، متى تنوي تحمل مسؤوليتك الشخصية والمهنية عن أزمة اليوم؟ .
فإن انتشر الفيديو على نطاق واسع، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب فاني أتناوله كمثال ليس من الشماتة بالطريقة التي مارستها مع الوزير وإنما الدرس الذي يجب اعتماده من قبل كل المحاورين والمذيعين في التعامل مع القضايا والحوارات بصدق ومهنية.
إذن البرامج الحوارية هي الوسيلة في إرسال الرسالة المطلوب إرسالها للمتلقي لكي تصله ويكون فكره حول القضية المطروحة من خلال الوسيلة التي تربط الرسالة بالمتلقي وهي البرامج الحوارية السياسية أو الاجتماعية التي لها مصداقية وموضوعية في عرض الحدث.
فالبرامج الحوارية في القنوات الفضائية تمتلك قدرة كبيرة في التأثير على اتجاهات الجمهور وتحديد مواقفه من مختلف القضايا التي تدور حوله، إذ تساهم ىهذه البرامج إلى حد كبير في تشكيل اتجاهت الأفراد وقيمهم وتغيير سولوكياتهم ورسم تصوراتهم للأحداث الجارية حولهم وفي العالم، فمن خلال البرامج الحوارية المتعددة أصبح لدى المتلقي إمكانية تكوين إدراك واضح لطبيعة الأحداث والقضايا المختلفة، وبالتالي اتخاذ مواقف معينة حيالها.