أعرف أن الكثيرين سيجدون في العنوان قسوة، لكني أراه منطبقاً على مضمون المقال، خصوصاً عندما نعرف أن المقصود بهم العلماء الذين يلتزمون بالروايات الصحيحة سنداً ومتناً في مباحثهم الفقهية، لكنهم يعتمدون الضعيف والمكذوب في أحاديثهم عن أهل البيت عليهم السلام. ويرى هؤلاء أن الأبواب الفقهية تترتب عليها أحكام الحلال والحرام، أما المواضيع الأخرى في غير المسائل الفقهية فالأمر فيها هيّن عندهم ، لذلك يتسامحون في دراسة أسانيدها ومتونها.

 

 

يقع اللوم على هذا النمط من العلماء لأنهم يعتمدون الضوابط العلمية في الفقه عند تعاملهم مع الروايات، ثم يرتقون المنابر يستيعنون ببحار الأنوار وغيره من الكتب الحديثية يأخذون الروايات فيتحدثون بها كما وردت بلا دراسة ولا تدقيق. وغاية ما يفعلونه لبراءة الذمة أنهم يشيرون الى المصدر بقولهم (جاء في البحار، ذكر صاحب الوسائل، ورد في الكافي، وهكذا..).

 

 

إن القضية هنا ليست في كون هذه الطريقة تقع في دائرة الحلال أو الحرام، فهذا شأن الفقهاء وحدهم، فهم الذين يفتون بجواز هذا الاسلوب أو في حرمته. لكن القضية لها أبعادها التربوية والفكرية والثقافية والعقائدية. خصوصاً وأنها تتصل مباشرة بسمعة التشيع، وببناء الانسان. فالاسلام منظومة معرفية متكاملة متماسكة، وليس من المعقول أن نأخذ بعضها بعلمية دقيقة، ونتعامل مع الباقي باهتمام أقل درجة، بل أحياناً يصل الأمر الى التسامح والإهمال.

 

 

كيف يمكن أن تنسجم صورة أهل البيت الذين نأخذ منهم أحكام الدين بالتحقيق والتمحيص، مع صورتهم الأخرى التي نتركها للخرافة ترسمها على خيالاتها وتصوراتها؟، ففي مثل هذه الحالة ستكون لهم عليهم السلام صورتان، واحدة تمثل الإسلام العلمي والثانية محاطة بالخرافة والغلو، وتكون النتيجة في المجتمع أن تغلب صورة الخرافة والغلو على الأولى، لأن الناس لا يعنيهم البحث الفقهي وأصوله ودقته، فهم يأخذونه جاهزاً من الرسائل العملية ومن الاستفتاء المباشرة أو غير المباشرة، أما ثقافتهم الدينية وعقائدهم فتتشكل من الجانب الأوسع المسموع والمقروء من المنابر والكتب، وهو الذي يدخل في تكوين عقولهم ويُحدد مستوياتهم وفهمهم للحياة وطريقتهم في العلاقات الخاصة والعامة، وتمسكهم بالاسلام والالتزام بمفاهيمه وعقائده وأخلاقه.

 

 

وتصبح المشكلة أكبر عندما يجلس العالم في مجلس الدرس، فيعتمد الضابطة الدقيقة في المناقشة في درسه الصباحي، ثم يجلس في مجلسه العام فيحدث سامعيه  بأحاديث وروايات وتخيلات غريبة.

 

 

وهذا يعني في حقيقته أنه يُلقي العلم الصحيح على خاصته من الطلبة، ثم له نشاط آخر يملأ فيه أسماع الحاضرين بالخرافة. فهو عالم في بعض اليوم، وصانع خرافة في بعضه الآخر. أليست هذه هي الإزدواجية بعينها؟

 

 

ومن الطبيعي أن يتأثر تلامذته به، فهو استاذهم ومثلهم وقدوتهم، فما يأخذونه منه في الدرس الحوزوي يأخذونه أيضاً من مجالسه ومحاضراته الأخرى، فتكون النتيجة تخريج أجيال من رجال الدين يؤمنون بقسم من العلم الصحيح، وبقسم آخر من المكذوب على الرسول والأئمة.

 

 

وحين ينتشر تلامذته في البلاد، فان الناس يلجأون اليهم في أمور الدين ومعارفه، وأكثر ما يهمهم العقائد والمفاهيم وتفسير القرآن وسيرة الرسول وأهل بيته، فاذا بهم يسمعون الجانب الآخر من الفكر والثقافة والسيرة والأخلاق، وهو الجانب المشوّه البعيد عن التدقيق والتمحيص. وبذلك تبقى الخرافة منتشرة في المجتمع، بل تزداد اتساعاً ورسوخاً في عقول الناس.

 

 

إن تراث أهل البيت منظومة واحدة متماسكة، وحين يجري تقسيمها الى قسمين فان النتيجة تكون غلبة التجهيل على التعليم، وفوز الخرافة على الحقيقة. وللأسف فان هذا الواقع هو الذي يسود وينتشر في مجتمعنا، وهو الذي يتسبب لنا بمزيد من التدهور على مستوى الانسان والمجتمع. وقد استغل هذا التسامح مجاميع من الخطباء ورجال الدين المعتاشين، فراحوا ينشرون الخرافة كسباً للجمهور البسيط.

 

 

كما تسبب هذا التسامح في بروز اتجاهات منحرفة عن التشيع وعن منهج أهل البيت عليهم السلام، ولعل المثال الأوضح في مرحلتنا المعاصرة، الفرقة الشيرازية التي استغلت هذا التسامح في التعامل مع الأحاديث، فنشطت في تجميع البسطاء، وملأت عقولهم بالخرافات والغلو والأفكار المنحرفة عن القرآن والسنة الصحيحة.

 

سليم الحسني