مع الضجيج المفتعل الذي أثارهُ "الغيارى" على الدين الإسلامي هذه الأيام، والذين يتوهّمون نُصرةً كاذبة للنبي محمد بوجه قِيم الحضارة والحداثة الغربية، والتي استُفزّت في فرنسا بذبح أستاذ تاريخ "مُغفّل" قام بنشر صورٍ مُسيئة لنبيّ الإسلام، من قِبل تلميذٍ "جاهلٍ" بالأصل بقيم الإسلام السّمحة، لا إسلام الأصوليّين المُتعصّبين الذين أفرزتهم "الصحوة الإسلامية" أواخر القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين، هؤلاء "الأنبياء" الكذَبة الذين نصّبوا أنفسهم حُماةً للدين الإسلامي الحنيف، في وجه التّجديف والكفر والزندقة، والرِّدّة، هؤلاء الذين راحوا يستعملون " إسلام وإسلامي" كيفما اتّفق، بدون أيّة مراجعة أو تفحُّص نقدي لمعرفة مدى مشروعية هذا الإستخدام.
هؤلاء "الأنبياء" الكذبة الذين قاموا بكلّ صلافةٍ ووقاحة من حرمان جموع المسلمين الصابرين فرصة الإطّلاع على ما كان عليه الفكر الإسلامي من مسؤولية ورصانة وصدق وانفتاح وإنسانية، أيام أبي حنيفة النعمان والشافعي وجعفر الصادق، والتوحيدي ومسكويه وفخرالدين الرازي، وإبن رشد والشاطبي، وغيرهم من كبار مُفكّري المرحلة الكلاسيكية، كما كان مسؤولاً في الفترة الأقرب إلينا: فترة محمد عبده وطه حسين وعلي عبدالرازق.
للأسف الشديد، نجح هؤلاء "الأنبياء" تُجّار الدم والسلاح، الذين أرادوا، ولعلّهم نجحوا في إعادتنا إلى تلك العقيدة التي فرضها الخليفة العباسي القادر بحدّ السيف منذ القرن الخامس الهجري، بما عُرف في حينه بالعقيدة القادرية، التي أباحت دم المعتزلة وغيرها من المذاهب غير السّنيّة منذ ألف سنة.
إقرأ أيضا : العنف المُختزن في الإسلام والسُّنّة النبوية.
هؤلاء الأنبياء الكذبة الذين منعوا جموع المسلمين التّواقين للتّخلُّص من الجوانب الإستلابية للدّين أو للعامل الديني، وفي نفس الوقت أصابوا نجاحاً كبيراً في تجييش ملايين المسلمين ورميهم في شراك التّخلّف والظلامية، ولم يُفلح كثيرون ممّن لجأوا إلى الغرب، وباتوا يُعدّون بالملايين من هضم قِيم الحضارة والحداثة في البلاد التي آوتهم وفتحت لهم إمكانية الوصول إلى قِيمها ومُشاركتها المواطنة في حدودها الدنيا، وقابلوا احتضان الغرب لهم بحرصهم على نشر قِيم التّخلّف والكراهية والتمييز الديني، فحرص الناشطون المُتعصّبون منهم على إنشاء الجمعيات الدينية التي تُحرّض على العنف وإحياء الرموز الشكلانية للدين الإسلامي في اللباس والزّي والمأكل والمشرب، كحجاب المرأة وإطلاق اللِّحى، وإقامة الصلاة في الشوارع والساحات الخارجية ووسائل النقل( حفاظاً على إقامة الصلاة في وقتها)، كانت طروحات إبن تيمية في كتاب السياسة الشرعية، ومقاصد الشريعة للشّاطبي وبداية المجتهد لإبن رشد، أرحب وأكثر إنسانية وانفتاحاً من تفاهات وتخرُّصات وطروحات محمد الغزالي وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي والقرضاوي وإبن لادن ، وآخر إخفاقاتهم كان أبو بكر البغدادي وداعش وأخواتها، ولو أنّهم اكتفوا بشؤونهم الخاصة لهان الأمر واحتمله الغرب، لكنّهم نصّبوا أنفسهم جلّادين بحقّ من يخرج عن أصول الدين الحنيف الذي يؤمنون به، فكانت جريمة شارل إيبدو منذ زمنٍ ليس ببعيد، وحادثة ذبح أستاذ مادة التاريخ الفرنسي الأخيرة، مع حوادث لا تُعدّ ولا تُحصى من عمليات الطّعن بالسلاح الأبيض والدهس بالعجلات، مًتناسين أنّ الإنكليز في بلاد " الكفار" كانوا قد قاموا بثورتهم، ونفّذوا حكم الإعدام بحق الملك شارل الأول، وكذلك فعل الفرنسيون عندما قطعوا رأس الملك لويس السادس عشر أثناء الثورة الفرنسية الكبرى، وفتحوا بذلك آفاقاً جديدة ودشّنوا طريقة مختلفة لإقامة العلاقة التّمفصُليّة بين الدين/ والسياسة، في حين ما زلنا في جحيم الفقه والشريعة التي لم تُراجع منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، ولم تخضع لفحصٍ نقديّ جادٍّ ورصين، ولا يأمن من أراد ذات يومٍ أن يفتح المُحاجّة الكلامية التي أثارها المعتزلة خلال فترة الإسلام المبكّر، بالقول بأنّ القرآن مخلوق، أو أنّ العالَم قديم، من أن يُكفّرهُ شيخٌ من شيوخ الأزهر الشريف أو النّجف أو قُمّ، فيهدر دمه ويزهق روحه فعلاً لا قولاً.
ليرتفع شعار: إلّا العنف والقتل، بدل التّلهي بالشعارات الكاذبة: إلّا رسول الله، فالرسول براءٌ منكم ومن مخازيكم ومن جرائمكم.