لست ساذجًا وعبيطًا لكي أتوقّع انتصار الثورة، فالتغيير الشّامل لا يُنالُ بأكلافٍ وتضحياتٍ بسيطة. كما لسْت بلا موقفٍ لكي أنحار إلى طبقةٍ فاشلةٍ بأمِّها وأبيها، حكَمَت لثلاثة عقودٍ: إمّا بالمراهقة السياسيّة تارةً، وإمّا بالخبث السياسيّ طورًا، وإمّا بالانتفاع تارةً أخرى.
كانت ثورةً لا مجرَّد حَرَاكٍ ولا مجرّد انتفاضة! يكفي أن ينزل نصف الشّعب اللبنانيّ إلى الشّارع مطالبًا بالتّغيير الشّامل والجذريّ حتى يستحقَّ هذا التّحرّك نعت الثورة والقائمون به لقب الثّوار. لم تكن الثورة الفرنسيّة ولا البلشفيّة ولا الإيرانيّة أكثر جذريّةً وراديكاليّةً من ثورة الشعب اللبنانيّ وإنْ لم يُقيَّضْ لهذه الأخيرة النّجاح!
ميَّزتُ دائمًا بين الثّورة التي تتمثّل في الحماس الذي انتاب نصف الشّعب إنْ لم نقل أكثر ونجاح الثّورة في الواقع. فانتصار الثورة أو نجاحها يخضع لموازين القوى الفاعلة في لبنان والإقليم. وصحيحٌ أنّ الأفكار عندما تستحوذ على عقول الجماهير تتحوّل إلى قوةٍ ماديّةٍ كما يقول الرفيق ماركس، لكنّ هذه القوة الماديّة لن تنجح في الواقع إذا جابهت قوًى ماديّةً أقوى منها بكثير.
الثورة لم تنجح حتى الآن. هذا صحيح! لكنّ الثورة المضادّة بعد سنةٍ كاملةٍ ثبَّتت فشلها بامتيازٍ وأثبتت عقمَها وخواء خطابها وحَرَكتها عندما استعارت شعارات الثورة لا لتعمل على تحقيقها، بل لكي تلتفَّ على حركة الثورة. شكّلت الثورة المضادة حكومةً فاشلةً بامتيازٍ، ليس لأنّ وزراءها غير أودام، بل لأنّها كانت تجسيدًا، بشكلٍ أو بآخر، للطبقة الفاشلة إيّاها فأضاعت الوقت الثمين المتبقّي ووصلنا الآن إلى الخيار المر: إمّا الانتحار الجماعيّ بنفاد احتياطيّات النّقد الأجنبيّ في مصرف لبنان وإمّا الانتداب المُلطّف مع ما يعنيه ذلك من وصايةٍ دوليّةٍ وتنازلٍ كبيرٍ عن السيادة السياسيّة والماليّة والاقتصاديّة. هذا ما أوصلتْنَا إليه الطبقة السياسيّة وأنصارها الذين يتهكّمون على الثورة ويتهمونها بالعَمالة للأمريكي والإسرائيلي. هذه الطبقة نفسُها التي تعاطت كلّ أنواع التبعيّة للخارج تتهم الثورة والثوار بأنّهم عملاء للخارج والسفارات.
قد يقول قائلٌ: أين الثورة النّظيفة فقد ارتكب الثوار أخطاء كثيرة؟ إلى هؤلاء نقول: هل هناك ثورةٌ نظيفةٌ في التاريخ؟ وهل هناك ملائكةٌ على الأرض؟ هل كانت الثورات عبر التّاريخ ثورات ملائكة؟
لست من دعاة العنف وما زلت على موقفي؛ لأنّ أيّ عنفٍ في دولةٍ منحلّةٍ وطبقةٍ سياسيّةٍ شيطانيّةٍ وسلاحٍ مواجهٍ قويٍّ ومتماسكٍ سيتحوّل، ولا بدَّ، إلى حربٍ أهليّةٍ لا تُبقي ولا تذر، هذا إذا لم يتحوّل إلى حربٍ إقليميّةٍ فتُنتسى مطالب الثوار ويُعمل على تحقيق الأجندات الإقليميّة.
كنت وما أزال أعمل بمنهجيّة التّغيير الهادئ، لكن الثابت والعنيد. فليس تغيير الأشخاص هو المطلوب، بل المطلوب تغيير طريقة التفكير حتى يتغيّر النّظام من أساسه. مشكلة الشعوب أنّها لا تتغيَّر إلّا ببطءٍ شديد. لذا، نرى كيف ينقلب الثوار على شعاراتِهم عندما يستلمون السلطة؛ لأنّ الذهنيّة الحاكمة لم تتغيّر.
يثرثر البعض: أين هو الشّعب الوطني الذي طالب بالتّغيير الشّامل؟! إلى هؤلاء نقول: إنّ الوطنيّة كأيّ شيءٍ آخرَ هي صناعةٌ أيضًا وليست هبةً أو أُعطية. لو كان هؤلاء الثرثارون جدّيّين في مواقفهم لتلقّفوا حماس الشّعب اللبناني وانسلاخه، ولو للحظاتٍ، عن طائفيّته المتعمِّقة والمقيتة ولبنوْا على هذا التحول العميق الذي أصاب الشعب اللبناني. لكنّهم، ونحن كنّا نعرف ذلك، لم يكونوا جدّيّين. فأنظومة الفساد واحدة، سواءٌ أكانت في جنّة السلطة أم ادعت أنّها خارجها.
ماذا فعل نواب الأمة طيلة ثلاثةِ عقودٍ حتى يتطوّر النظام ونصل إلى الدولة الحديثة؟ ماذا فعلت الحكومات المتعاقبة التي اشترك فيها الجميع لكي لا يذوق الشعب اللبناني طعم المرارة ويصل إلى المجاعة؟ هل يُعقل أنّه بعد كل هذه المآسي التي تضرب الوطن اللبنانيّ ما زال البعض يدَّعي أنّ لديه ما يقدِّمه إلى الشعب اللبناني وأنّ الظروف لم تسمح له ببناء الدولة الحديثة؟
كانت ثورةً من أجل الكرامة الإنسانيّة ولم تكن فقط من أجل رغيف الخبز. فالذين نزلوا إلى الشارع لم يكونوا فقط جوعى. والجيل الشّاب الجديد الذي صنعته التكنولوجيا كان يطمح إلى مستقبلٍ أفضلَ رغم الجنّة الوهميّة التي خلَقها رياض سلامه على حساب أموال المودعين.لقد أيقظتْنا الثورة من السّبات الهنيء! كنّا نعيش فوق مستوانا بكثيرٍ بفضل ألاعيب مصرف لبنان وجمعيّة المصارف المشؤومة.
الآن ما العمل؟
في اعتقادي إنّ الطبقة الحاكمة في أزمةٍ كبيرة. وأفضل عملٍ نقوم به هو أن ندَعها تحكم حتى سقوطها المدوّي. لقد دقّت ساعة الحقيقة ووصلت الأزمة إلى الأعماق. ومهما حاول البعض أن يرقِّع الثوب البالي والمهترئ فإنّ الاهتراء المزمن سيمزِّقه ثانية. فليس لدى هذه الطبقة الحاكمة من شيءٍ حَسَنٍ لتقدِّمه إلى الشعب اللبناني وحتى إلى أتباعها وأنصارها بعدما سُرِقت البلد وودائع النّاس. وقريبًا جدًّا نغرق أكثر في القيعان السّحيقة الباردة والمظلمة. عندئذٍ، إمّا نتلاشى كبلدٍ وكشعبٍ وإمّا ننهض من جديدٍ كشعبٍ يستحقّ الحياة. وأول شروط الحياة أن لا نجرّب الطرق ذاتها وأن لا نسلِّم رقابنا إلى مَنْ أوصلنا إلى هذه المأساة.