من غرائب وعجائب الأمور في العديد من الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية أو شمولية، وأنظمة فاسدة، يُغتالُ الشرفاء والوطنيون، أو يُزجّون في السجون، أو يُنفون خارج البلاد في أحسن الأحوال، ولم يُحرم اللبنانيون من "نعمة" الفساد، والتي تدُرّ المليارات من الدولارات( كانت إلى وقتٍ قريب تدر الملايين) على المسؤولين والمحظوظين، فدخل لبنان في منظومة الدول الاستبدادية والفاسدة، وهذه الغرائب تغدو مع مرور الزمن أموراً عادية، لا يلبث أن يعتاد عليها المواطنون الصابرون بعد إيهامهم بأنّ هذا قدرهم، أو في أحسن الأحوال تُرمى لهم بعض الفتات لسدّ الرمق، وتمويه الحقائق، إلاً أنّ أغرب ما تفرّد به لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية هو حصول ظاهرتين من النادر جدّاً أن تشهدهما دولٌ أخرى، وخلال فتراتٍ زمنية مُتباعدة.
الظاهرة الأولى: الرئيس الراحل رفيق الحريري...
الرئيس الراحل رفيق الحريري، مواطن لبناني جنوبي من طبقة اجتماعية متوسطة الحال، هاجر إلى المملكة العربية السعودية، وعمل في قطاع المقاولات، وضحكت له الدنيا والحظّ معاً، فجنى مليارات الدولارات، واكتسب لقب "شيخ سعودي"، وعاد إلى لبنان منذ حوالي ثلاثة عقود، بعد رعاية المملكة لاتفاقّ الطائف الذي وضع حدّاً للحرب الأهلية اللبنانية، وراح يبذر "بذوراً خيرية" لاستثمارها فيما بعد في السياسة، واستطاع أن ينال رضا النظام السوري، الذي كان يبسط وصايته على لبنان، فتحوّل المقاول الملياردير بين ليلةٍ وضحاها زعيماً سياسيّاً، دانت له الطائفة السنية، واستطاع إلحاق ما تيسّر له من زعاماتٍ مسيحية( كانت الطائفة المسيحية في حالة إحباط)، وما لبث أن تبوّأ مقعد رئاسة الحكومة، الذي تعزّز بموجب اتفاق الطائف، وتحت عنوان "إعادة الإعمار"، أدخل "المقاول" السياسي الحريري لبنان في دوامة الإستدانة الداخلية والخارجية، وفُتحت في عهده أقفال الخزانة العامة لأهل السياسة والمسؤولين والمقاولين وناهبي المال العام، وتُجّار الوطنيات والقوميات والسلاح غير الشرعي، حتى وقع لبنان في دائرةٍ مُحكمة من الإسنتنزاف المتمادي لموارده المالية، من تفشّي الفساد، إلى هدر المال العام والاثراء غير المشروع وصرف النفوذ وتكديس الثروات، في مختلف القطاعات الحكومية والمؤسسات الرسمية والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حتى وصل الأمر اليوم إلى حافة الانهيار الشامل.
إقرأ أيضا : جنبلاط العروبي خائفٌ على جماعته قدْر خوفه على الوطن.
الظاهرة الثانية: ظاهرة ميشال عون-باسيل.
الجنرال ميشال عون كان قائداً للجيش اللبناني في عهد الرئيس السابق أمين الجميل، وما لبث أن تبوّا مركز رئاسة حكومة عسكرية مبتورة( اقتصرت على وزيرين مسيحيين)، وخاض الجنرال عون معارك عسكرية بهلوانية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، تارةً مع أحد أطراف الحرب الأهلية( القوات اللبنانية )، وطوراً مع الآلة العسكرية السورية الطاغية، وعشية 13 تشرين الأول عام 1990، ألقى الجنرال عون على القادة العسكريين ومُناصريه خطاباً ناريّاً، تعهّد فيه الوقوف في وجه آلة الحرب السورية حتى الإستشهاد، وفي اليوم التالي كان الجنرال عون أوّل من فرّ إلى السفارة الفرنسية في بيروت، تاركاً وراءه حُطاماً من العسكريين الذين لم يصلهم بيان استسلامه، فقاوموا حتى النهاية، فاستشهد من استشهد، ووقع الباقون في الأسر، ولم يُكشف مصير أكثرهم حتى اليوم، بعد ثلاثين عاماً مضت.
إلاّ أنّه يمكن اعتبار لجوء الجنرال عون إلى السفارة الفرنسية في بيروت ليس بالحدث المستغرب أو المستنكر، فقد كانت له ظروفه وحيثيّاته، إلاّ أنّ المسستغرب فعلاً، لا بل في غاية الإستغراب والإستنكار، هو إصرار تيار الرئيس عون على الإحتفال السنوي في ١٣ تشرين الأول من كلّ عام، بهذه الهزيمة المُنكرة باعتبارها حدثاً جللاً يستحق الاعتزاز والافتخار به، واعتباره مأثرة عظيمة للجنرال عون، تُضاف إلى مآثره العديدة، فيجمع الوزير جبران باسيل( بهذه المناسبة السعيدة) نُوابه ووزراءه ومُناصريه ومُتابعيه، ليحتفل ويرفع إصبعه في وجه اللبنانيين المنكوبين والمفجوعين والمذهولين والمصدومين، مُهدّداً مُتوعّداً، ناثراً الأكاذيب والبهورات والأمنيات الزائفة، بدل أن يخجل ويشعر بالخزي والعار الذي لحق بالبلد في عهد عمّه الرئيس عون، وعلى يديه تحديداً.