في محاولة لإجراء قراءة سريعة لما بلغه الوضع في لبنان على وقع المساعي المبذولة لتشكيل الحكومة ومعالجة الاوضاع المعيشية، اختصر مرجع ديبلوماسي المشهد بالقول: «يبدو لي انّ السباق محموم بين مجموعة من الاستحقاقات النقدية والحكومية والأمنية، بعدما تشابكت الأزمات وتداخلت، الى درجة باتت تهدّد ما هو قائم من «ستاتيكو» على هذه المستويات». فكيف السبيل الى ترجمة هذه المعادلة؟
كان النقاش يتناول الصورة النمطية التي اكتسبها الوضع القائم في لبنان، على قاعدة تقدير حجم المخاطر ان بقي الوضع على ما هو عليه من اهتراء، عندما انبرى الديبلوماسي العتيق الى اختصار المشهد، بالحديث عن معادلات خطيرة نشأت جراء الشروط والشروط المضادّة، التي عطّلت معظم المبادرات الحكومية والسياسية والاقتصادية. كذلك انعكست على تلك التي سعت الى التخفيف من وطأة الضغوط على حياة الناس، وللحدّ من انتقال مجموعات كبيرة منهم الى ما دون خط الفقر، بفعل الغلاء وما بلغته الازمة النقدية التي عطّلت عدداً كبيراً من القطاعات وجمّدت النشاط في البعض منها ورفعت من نسبة البطالة ووتيرة المخاطر الأمنية الى الذروة.
لم يشأ الديبلوماسي اطلاق المعادلة من دون ان يشير، الى انّ ما يعاني منه اللبنانيون اليوم ليس ابن ساعته، وليس من النتائج الكارثية التي ادّى اليها انفجار المرفأ وسقوط «حكومة التحدّيات» التي شكّلها الرئيس حسان دياب بعد اقل من 7 اشهر على قيامها، وقبلها سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري، على وقع انتفاضة 17 تشرين، التي اقتربت ذكراها السنوية الأولى. معتبراً انّ كل ما جرى «لم يكن سوى الحصيلة الطبيعية للسياسات الفاشلة التي اعتُمدت في مواجهة الأزمات التي عاشتها البلاد في السنوات الثلاث الأخيرة، ولم تعر اي اهتمام لمجموعة من المؤشرات الدالة اليها، قبل ان تأتي جائحة الكورونا، وما تحمل معها من شلل واغلاق داخلي عزّز الحصار الخارجي الذي كانت البلاد تخضع له.
وما كان واضحاً، انّ مجمل هذه الازمات الخارجية والداخلية التي تناسلت ونمت تحت خط «الجهل الحكومي»، في فهم ما يجري في البلد والمنطقة، زاد منها سوء تقدير الخطوات الواجب اتخاذها على اكثر من مستوى. وكل ذلك جرى على وقع التصميم على ممارسة المناكفات السياسية بين اهل البيت، التي قادت الى مجموعة من الاخطاء الإقتصادية والنقدية والديبلوماسية الكارثية، التي انفجرت دفعة واحدة في العنبر الرقم 12 من مرفأ بيروت.
وعليه، يعترف الديبلوماسي، انّه وعلى وقع السباق القائم اليوم بين مجموعة الأزمات، وعدم قدرة اهل السلطة على مواجهة اي منها، جاءت المبادرة التي قادها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، لتلقي الضوء على امكان تجاوزها بعد تفكيكها واحدة بعد اخرى. وبدلاً من الإعتراض على ما قالت به وعرقلتها، كان الأجدى التزام خريطة الطريق الواضحة التي حدّدتها. وهي بما رسمته من آليات فرضت السعي الى تشكيل «حكومة المهمّة»، من اجل وضع القطار على السكة والتفرّغ لبقية الازمات واحدة بعد أخرى، بعدما وضعت لها المعالجات كل مصادر القوة التي يمكن ان تأتي بها.
ولذلك، يقول الديبلوماسي عينه، انّ الفشل في مقاربة الملف الحكومي اولاً، القى الضوء سريعاً على النتائج الكارثية للملفات والاستحقاقات الكبرى المقبلة، لو فشل اللبنانيون من عبور المرحلة الاولى. ولذلك، فإنّ كل التقديرات تشي بمزيد منها. فما بلغته موجودات مصرف لبنان لم تعد كافية للتخفيف من حدّة الازمات المعيشية، وباتت تهدّد لقمة عيش اللبنانيين، في وقت ما زال عشرات الآلاف من اللبنانيين المتضررين من انفجار المرفأ بلا مأوى ولا تعويض على ابواب الشتاء. وانّ الرهان كان وما زال كبيراً على تسجيل خرق حكومي وسياسي، يفكك بعضاً من العقد المالية والنقدية دون حلّها تماماً، لانّها تشكّل في حدّ ذاتها مادة اولوية للمواجهة.
واذ دخل الديبلوماسي في التفاصيل، قال: «كان في قدرة لبنان فور تشكيل الحكومة وفق المواعيد والمِهل الفرنسية، من ان ينتظر جرعة دعم قوية من مؤتمر دعم لبنان، الذي كان مقرّراً عقده في نهاية تشرين المقبل، تزامناً مع رهان آخر كان يمكن اللجوء اليه بالحصول على نحو 900 مليون دولار، هي حصّة لبنان السنوية من صندوق النقد الدولي، قبل الحصول على الإذن منه لفتح خزائن الدول والمؤسسات المانحة، ان نجح في اطلاق مفاوضاته المتعثرة معه وتلبية اولى مطالبه من الإصلاحات، التي لا يجب ان تنتظر مثل هذا النقاش لتحقيقها، لو كانت هناك نية صادقة في القيام بأي خطوة ولو كانت متواضعة».
وسأل الديبلوماسي: «هل يُعقل ان ينتظر لبنان الحوار مع صندوق النقد لأشهر عدة ليعيّن مجلس إدارة جديد لمؤسسة الكهرباء؟ ولماذا لم تُشكّل الهيئة الناظمة للقطاع بعد؟ ولماذا تعطّلت مساعي تخصيص قطاع الانتاج فيه، بدلاً من سياسة البواخر والمولّدات ودعم اسعار الكهرباء، بنسب لا تتحمّلها موازنات الدول الغنية؟ وما الذي ينتظره اهل السلطة للبتّ بقانون «الكابيتال كونترول»، الذي كان يحتاجه لبنان فور وقوع الازمة النقدية، لتنظيم علاقات المصارف بمودعيها، لو لم يكن الهدف اعطاء الوقت الكافي لتهريب المليارات التي يمتلكها اركان السلطة الى الخارج، تحت شعار حماية اموال المودعين؟ وما الذي يحول دون توحيد الارقام حول حجم الخسائر في مصرف لبنان والقطاع المصرفي، قبل ان تقع البلاد فريسة اربع او خمسة اسعار مختلفة للدولار، فيما يدعو صندوق النقد الى توحيد هذه الاسعار أياً كانت الكلفة، ضماناً لمردود ايجابي يمكن ان يفرزه السوق المالي في وقت لاحق؟».
على هذه الخلفيات وأخرى تتصل بالمخاوف الامنية الناجمة عن تدني مستوى معيشة فئات لبنانية واسعة، باتت تعبّر عنهم «عبّارات الموت» وحالات الانتحار وموجات السرقة، عدا عن الفسق الاخلاقي المتنامي في المجتمع، وهو امر يستجر كثيراً من الخسائر غير المنظورة، ان بقي السباق قائماً ومحموماً بين الليرة والحكومة والأمن، من دون ان يحسم احد هذا السباق أو على الأقل تنظيمه؟