طبيعي أن تأتي الردود على العقوبات الأميركية الأخيرة على هذا الشكل العنيف من التحدّي. فالشعوب في العالم العربي وسائر دول العالم الثالث، اعتادت سماع هذا النوع من الردود على «القوى الامبريالية»، في كل ليلةٍ، قبل أن تَذهب بسلامٍ إلى نومها العميق. ولكن، في الواقع، يدرك الذين صدرت أسماؤهم أو ستصدر، أنّهم في النهاية لا يستطيعون الوقوف إلاّ على الأرض. ولذلك، هم اليوم في حالة دورانٍ حول أنفسهم ليعرفوا: أين سنضع أرجُلَنا من الآن فصاعداً؟
ينظر الخبراء إلى العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس باعتبارها فاتحةً لمستوى أعلى. وفي عبارة أكثر دقّة، هي فاتحةُ «الجيل الخامس» من خطة الضغط الأميركي، وهو جيل يُتوقّع أن يكون أكثر عمقاً وسخونة وفاعلية.
- الجيل الأول بدأ في العام 2017، مع تولّي الرئيس دونالد ترامب ولايته الرئاسية. وهو قضى باستهداف كوادر «حزب الله» وخلاياه في العالم، وإطلاق التحذيرات للقطاع المالي والمصرفي اللبناني من مغبة السماح لـ»حزب الله» بخرقه والتسلّل من خلاله إلى القطاع المصرفي الأميركي. وقد تعاطى القطاع المصرفي مع هذه التحذيرات بدرجات متفاوتة من الجدّية، لكن واشنطن تجنّبت الردّ عليه.
- الجيل الثاني، بدأ في العام 2018، وقضى بالضغط على القوى السياسية اللبنانية لتتخلّى عن دعمها لـ»حزب الله»، وتمنع سيطرته على الدولة. ولذلك، توقَّفت القوى والجهات الدولية تماماً عن تقديم الدعم الذي اعتاد عليه لبنان والطاقم السياسي، ولاسيما مساعدات «سيدر».
- الجيل الثالث، منذ العام 2019، شهد انتقالاً إلى الخطوات العملانية، مالياً ومصرفياً واقتصادياً وسياسياً. ففي آب، جرى فرض العقوبات على «جَمّال تراست بنك» تحت عنوان تسهيل أنشطة «الحزب».
وقد سارع مصرف لبنان إلى استيعاب الأمر، لئلا يترك تداعياته على القطاع. ولكن، تبيّن أنّ تلك الخطوة الأميركية كانت فاتحة لجيل من العقوبات أشدّ قساوة، إذ رُفِعت التغطية عن الدولة اللبنانية، ما سمح بتظهير انهيارها مالياً ونقدياً ومصرفياً واقتصادياً.
- الجيل الرابع بدأ بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 وسقوط حكومة الحريري وقيام حكومة دياب، مطلع العام الجاري. فالأميركيون دعموا الانتفاضة وتلقّوا وعداً من دياب بأن تلتزم حكومته مطالب الشارع بالإصلاح ورفع سيطرة «حزب الله» عن المؤسسات. لكن، الواقع أظهر العكس.
- اليوم، بعد زلزال المرفأ، وفيما يصطدم الرئيس المكلََّف مصطفى أديب والراعي الفرنسي، بعقبات دياب نفسها، أطلقت واشنطن الجيل الخامس من العقوبات، وهو يقضي بالذهاب مباشرة إلى الهدف في الداخل اللبناني، أي إلى «حزب الله»، لمحاولة عزله سياسياً، بحيث يفقد سيطرته على القرار المركزي.
ولذلك، يقول هؤلاء، عمد الأميركيون إلى تسمية الوزيرين السابقين خليل وفنيانوس بناء على دراسة دقيقة للنتائج السياسية المتوقّعة.
وثمة مَن كان يتوقَّع أن يبدأ الأميركيون عقوباتهم الجديدة بأسماءٍ أخرى. ورجَّحوا أن يكون رئيس «التيار الوطني الحرّ» الوزير السابق جبران باسيل أول اللائحة. ولكن، تبيَّن أنّ التكتيك الأميركي قضى بتأجيل إدراجِه إلى دفعةٍ لاحقة.
فلماذا تمَّ البدء حصراً بركنين أساسيين، إلى جانب رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، وما هي النتائج السياسية المحتملة؟
المطلعون يقولون، إنّ الهدف الأميركي الأساسي في المرحلة الحالية هو فكّ التحالف الذي يقيمه «حزب الله» مع رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره السياسي. وفي تقديرهم، أنّ ابتعاد «التيار» يكفي وحده لإفقاد «الحزب» أي تغطية في السلطة.
فالرئيس نبيه بري يمنح «الحزب» تغطية لا تتجاوز الطائفة الشيعية. ورئيس تيار «المردة» يمنحه تغطية مسيحية، ولكن محدودة. ولا يمكن أن يَطمَئنَّ «الحزب» إلى تغطيته المسيحية في شكل مناسب إلّا من خلال «التيار الوطني الحرّ». وهذا واضح.
ولكن، يَعتقد المطلعون، أنّ الأميركيين حاذروا أن تكون ضربتهم الأولى هي الأقوى، وفضّلوا الاستمرار في سياسة رفع مستوى الضغط تدريجاً. فاستهداف «التيار الوطني الحرّ» يعني أيضاً إطلاق النار على رئيس الجمهورية. وهذا أمر ربما تكون له مستتبعات على العهد وقدرة الدولة والمؤسسات على الاستمرار. فلا بأس أولاً باستهدافات أخرى يمكن أن تشكّل تحذيراً لفريق الرئيس.
في أي حال، لن يكون للرئيس بري هامش الحركة السياسية كما كان قبل 8 أيلول. وربما يظهر ذلك في عملية تأليف الحكومة أو في مسألة ترسيم الحدود أو سواهما. وهو إذ يحرص على استمرار تنسيق خطواته مع «حزب الله»، شريكه في قيادة الطائفة الشيعية، فإنّه سيجري حسابات دقيقة لمستوى التحالف معه، لأنّ لا مصلحة بالتأكيد لا لبري ولا حتى لـ»حزب الله» الوقوع في سوء تفاهم مع الأميركيين.
ويذهب تحليل بعض رموز المعارضة إلى القول، إنّ رئيس المجلس ربما يستفيد من العقوبة الأميركية الأخيرة، لأنّها برَّرت له تمييز موقفه عن «الحزب». لكن آخرين يفضِّلون عدم المبالغة في هذا الشأن، لأنّ بري حريص تماماً على تماسك الصفّ الشيعي، ولا يريد إفساح المجال لأي سوء تفاهم مع «الحزب»، لا سياسياً ولا في الشارع.
إذاً، العقوبات الأميركية على البيئة المحيطة بالرئيس بري ستكون لها تأثيرات على مواقفه السياسية، يتفاوت تقديرها. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى رئيس «المردة» سليمان فرنجية.
ومن الواضح، أنّ الأميركيين في صدد تصعيد عقوباتهم في هذه المرحلة إلى حدود غير مسبوقة، بحيث تكون مفتوحة على القوى والمرجعيات السياسية جميعاً.
ولذلك، كان لافتاً أنّ قرار العقوبات الأخير، الصادر عن وزارة الخزانة، تبنَّى في مقدّمته شعار الانتفاضة الشهير «كلُّن يعني كلُّن»، وهي إشارة بالغة الأهمية في رمزيتها.
فهل سيكون G5 العقوبات الأميركية هو خاتمة الأزمة، أم ستكون أمام اللبنانيين أجيال أخرى؟ كثيرون يعتقدون أنّ الوضع لم يعد يتحمَّل درجة أعلى من التوتّر والتصعيد والانهيارات... والحرائق.