أثارت حادثة انسحاب النائب الحاج محمد رعد من مأدبة غداء القصر الجمهوري على شرف الرئيس الفرنسي ماكرون، لغطاً شديداً،
وقيل بأنّ الذريعة كانت وجود زجاجة نبيذ على مائدته أو بالقرب منها، فإذا صحّت رواية الإنسحاب لوجود " الخمر" على المائدة، فهذا يدخل في حرية التّصرّف للحاج رعد، ويبقى هذا شأنٌ خاصٌّ جدّاً به، لكن عندما أخذت الحادثة بُعداً آخر، وتعرّض الحاج محمد رعد لسيلٍ من الإنتقادات و" التّجريحات السياسية" على وسائل التواصل الاجتماعي كافة، ولم يُكلّف نفسه عناء التوضيح والتبرير والتصويب، فإذا كان انسحابه فعلاً بسبب وجود " النبيذ" على المائدة، فيكون عندئذٍ مُجتهداً أخطأ القصد والتأويل، ويعلم أيّ مُطلّعٍ على مُقدمات الفقه الإسلامي، وتاريخ الإسلام المُبكّر شدّة اختلاف المسلمين حول النبيذ، والمعروف والشائع أنّ القائلين بتحريم القليل من النبيذ ، لم يُفرقوا بين ما طُبخ وما نُقع،ذلك أنّ تحريم الخمر مُجمعٌ عليه لا اختلاف فيه بين اثنين من الأئمة والعلماء، كما يذكر الفقيه إبن عبد ربه في كتابه " العقد الفريد"، وتحريم النبيذ مُختلفٌ عليه بين الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين، حتى لقد اضطرّ محمد بن سيرين مع علمه وورعه أن يسأل عَبيدة السّلماني عن النبيذ، فقال له عبيدة: اختُلف علينا في النبيذ، وعبيدة ممّن أدرك أبا بكر وعُمر؛ فما ظنّك بشيئٍ اختلف فيه الناس وأصحاب النبي مُتوافرون، فمن بين مُطلقٍ له ومُحظرٍ عليه، وكل واحدٍ منهم مُقيم الحجج لمذهبه والشواهد على قوله.
والنبيذ كل ما يُنبذُ في الدِّباء والمُزفّت فاشتدّ حتى يُسكر كثيره، وما لم يشتدّ فلا يُسمّى نبيذاً، كما أنّه ما لم يُعمل من عصير العنب حتى يشتد لا يُسمّى خمراً، وقيل لسفيان الثوري وقد دعا بنبيذٍ فشرب منه ووضعه بين يديه: يا أبا عبد الله، أتخشى الذباب أن يقع في النبيذ؟ قال: قبّحه الله إن لم يذُبّ عن نفسه، وذكر إبن قتيبة في كتاب الأشربة أنّ الله تعالى حرّم علينا الخمر بالكتاب، والمُسكر بالسُّنّة، فكان فيه فسحة، فما كان مُحرّماً بالكتاب لا يحلُّ منه لا قليلٌ ولا كثير، وما كان محرماً بالسّنّة فإنّ فيه فسحة أو بعضه، كالقليل من الحرير والديباج يكون في الثوب، والحريرُ مُحرّمٌ بالسّنة، وقد استأذن عبد الرحمن بن عوف رسول الله في لباس الحرير لبليّةٍ كانت به، وأذِن لعرفجة بن سعد- وكان أُصيب أنفه يوم الكلاب- باتخاذ أنفٍ من ذهب، وقد جعل الله فيما أحلّ عوضاً ممّا حرّم؛ فحرّم الربا وأحلّ البيع، وحرّم السِّفاح وأحلّ النكاح، وحرّم الديباج وأحل الوشي، وحرّم الخمر وأحلّ النبيذ غير المُسكر، والمسكر منه ما أسكرك.
إقرأ أيضا : لبنان باقٍ والدُويلة المُصطنعة والطبقة السياسية الفاسدة إلى زوال
وبقيت أشهر حُجّة في يد المُحلّين للنبيذ، ما رواه مالك بن أنس في موطئه من حديث أبي سعيد الخدري: انّه لما قدِم من سفرٍ فقُدٍم إليه لحمٌ من لحوم الأضاحي، فقال: ألم يكن رسول الله نهاكم عن هذا بعد ثلاثة أيام؟ فقالوا: قد كان بعدك من رسول الله فيها أمرٌ، فخرج إلى الناس فسألهم، فأخبروه أنّ رسول الله قال: كنتُ نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، فكُلوا وادّخروا وتصدّقوا، وكنتُ نهيتكم عن الإنتباذ في الدباء والمزفّت، فانتبذوا وكلّ مُسكرٍ حرام، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها ولا تقولوا هُجرا. وفسّروا قوله صلى الله عليه وسلم: كلّ مُسكرٍ حرام، ينهاكم بذلك أن تشربوا حتى تسكروا، وإنّما المسكر ما أسكرك. وما أيد رواية مالك بن أنس ما ذكره إبن مسعود فقد قال: شهدنا التّحريم وشهدتم، وشهدنا التّحليل وغِبتُم، وكان يشرب الصُّلب من النبيذ التمر، حتى كثُرت الروايات عنه وشُهرت وأُذيعت، واتّبعه عامةُ الكوفيّين وجعلوه أعظم حُججهم، وقال في ذلك شاعرهم:
من ذا يُحرّمُ ماء المُزن خالطهُ
في جوف خابيةٍ ماءُ العناقيدِ
إنّي لأكرهُ تشديد الرواة لنا
فيه، ويعجبني قولُ ابن مسعودِ.
وفي روايةٍ منسوبة عن مالك إبن دينار، وسُئل عن النبيذ: أحرامٌ هو؟ فقال: أنظر ثمن التمر من أين هو، ولا تسأل عن النبيذ أحلالٌ هو أم حرام، وعوتب سعيد بن زيد في النبيذ، فقال: امّا أنا فلا أدعه حتى يكون شرّ عملي، وأهل الكوفة مُجمعون على التحليل، لا يختلفون فيه، وتلوا قول الله عز وجلّ: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالا، قل آللّهُ أذن لكم أم على الله تفترون).
على أنّه لا يمكن استقصاء أقوال وحجج المحللين لشرب النبيذ لكثرتها وانتشارها وتفرُّعها، بحيث يمكن للمسلم الذي يتحرّى التشدّد أن لا يتناول النبيذ ولكن لا يرمي من يتناوله بارتكاب المعاصي، وكان حريّاً بالحاج محمد رعد أن يتساهل في أمر من يجلس معه وهو يشرب النبيذ، أسوةً بواحدٍ من الكوفيّين، كان يُحرّم النبيذ ( بخلاف أهل الكوفة أجمعين) وهو عبدالله بن إدريس، وكان مَعيباً عند أهل بلده، ومع ذلك عندما سُئل: من خِيار أهل الكوفة؟ قال: هؤلاء الذين يشربون النبيذ! فقالوا: وكيف وهم يشربون ما يحرُم عندك؟ فقال: ذلك مبلغهم من العلم، أو لو أنّه كان على مذهب إبن المبارك الذي كان يكره شرب النبيذ ويخالف فيه رأي المشايخ وأهل البصرة، وعندما سأله أبو بكر بن عياش: من أين جئت بهذا القول في كراهيتك النبيذ ومخالفتك أهل بلدك؟ قال: هو شيءٌ اخترته لنفسي، قال: فتُعيب من شربه؟ قال : لا، قال: أنت وما اخترت.
للأسف الشديد، اختار الحاج خيار التّشدّد، بدل خِيار المسلمين في اليُسر بدل العُسر.