كما إنتهت المئوية الأولى بنكهة فرنسية بدأت المئوية الثانية بتهديد فرنسي واضح. إنه التاريخ يعيد نفسه، وإن بأشكال ووجوه مختلفة. بالأمس وقف الجنرال هنري غورو، ومن على يمينه البطريرك الياس الحويك، وعلى يساره المفتي مصطفى نجا. واليوم وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المكان نفسه، الذي لا يزال شاهدًا على حقبة تاريخية من عمر الوطن حفلت بالكثير من التطورات، ولكن من دون أن تؤثرّ في وحدته على رغم الحروب التي مرّت عليه، ولكنها عجزت عن تغيير عقلية المحاصصة والمصالح الشخصية، التي حذّر منها الرئيس الفرنسي أمام رئيس الجمهورية وأركان الدولة.
لقد غادر ماكرون لبنان، على أن يعود إليه خلال ثلاثة أشهر، وهي فترة كافية أمام الحكومة العتيدة، التي لن تكون هذه المرّة كسائر الحكومات، أي أنها سوف تعتمد المداورة في الحقائب الأساسية، إذ لن تكون أي حقيبة مطوّبة على إسم فريق واحد من اللبنانيين، بحيث أصبحت هذه الوزارات وكأنها ملك لهذه الطائفة أو تلك، لكي تنجز ما عجزت عن إنجازه حكومة "مواجهة التحديات"، وهي تضع نصب أعينها ضرورة التغلب على التحديات وليس فقط مواجهتها، لأن ما بين التغلب على التحديات والصعوبات وما بين المواجهة فرقًا كبيرًا. فالمواجهة لا تعني بالضرورة إيجاد حلول للأزمات القائمة، وهي كثيرة. أما التغلّب على الصعوبات والتحديات فيعني عكس المواجهة تمامًا، ويعني إن من يرد يفعل، خصوصًا إذا ما كانت الظروف المحلية والخارجية مهيأة لتذليل العقبات من أمام هذه الحكومة وما يمكن أن تواجهه من عراقيل، لأن فرصة الإنقاذ لن تتكررر مرّتين، وقد قالها ماكرون هذه المرّة وبلهجة صريحة ومن دون مواربة، حيث خلع القفازات المخملية وتوجه إلى اللبنانيين بلغة تهديدية، وكأنه يقول لهم إنها الفرصة الأخيرة لإنقاذ بلدكم من الزوال والإندثار والتحلل، وهو الذي لعب برأسماله السياسي، خصوصًا أنه يعرف أن على المسؤولين اللبنانيين مواجهة المغريات والتغلب عليها، سواء أكانت إقليمية أم دولية.
فعلى الأطراف اللبنانية كافة، حتى تلك التي لم تسمّ الدكتور مصطفى أديب لتشيكل الحكومة العتيدة، تقديم كل التسهيلات الضرورية بالتدرج، وبدءا بتسهيل قيام حكومة الإنقاذ الوطني وعدم وضع العصي في دواليب التشكيل، والتنازل عن بعض المصالح الشخصية، إن لم يكن كلها، ومساعدتها في مهمتها الشاقة لشق غمار البحر الهائج، من أجل إيصال سفينة الوطن إلى برّ الأمان والخلاص، وذلك عن طريق خطة واضحة المعالم للسير في الإصلاحات الضرورية واللازمة، التي من دونها لن يحصل لبنان على أي مساعدة لا من صندوق النقد الدولي ولا من "سيدر" ولا من أي جهة عربية كانت أم أجنبية، لأن المطلوب من اللبنانيين أن يساعدوا أنفسهم قبل أن يطلبوا من الآخرين مدّ يد المساعدة لهم.
وفيما يغادر ماكرون لبنان يأتيه الموفد الأميركي دافيد شينكر، وهو المعروف بتشدّده في الإدارة الأميركية ضد "حزب الله"، وقد يحاول "الدوبلة" على المبادرة الفرنسية والدخول على خط تشكيل الحكومة من خلال رفضه توزير "حزب الله" أو مقربين منه، ويعتبر أنه جزء كبير من المشكلة، لذلك يقف في وجه الإصلاح،على خلاف الفرنسيين، الذين يعتبرون أن الحزب هو جزء من الشعب اللبناني.
فهل ينجح شينكر في ما يسعى إليه، وهل سيكون للتدخل الأميركي أي تأثير سلبي على المبادرة الفرنسية.
الأيام الآتية على عجل وحدها الحكم على النوايا والأفعال.