في وادي الحجير عينه وبتاريخ 24 أيّار من العام 1920، أقام أهالي وفاعليات وعلماء جبل عامل مؤتمرًا كبيرًا وتاريخيًا، شكل مفصلا سياسيًا وثقافيًا ارتداداته لا تزال تصيبنا الى اللحظة، لما تمخّض عنه من نتائج أسست حينها لخيارات سياسية مفصلية لها امتدادت ثقافية قد حفرت في الوجدان الشعبي الشيعي، وشكّلت ما يشبه الوعي الجمعي عندهم. لكن بكلّ أسف هذا الوعي مبني على شعارات خطابية لا تمت بأيّة صلة إلى المصلحة الحقيقية للاجتماع الشيعي ولا الى الحالة الوطنية بعد تشكلها القسري.
ففي تلك المرحلة كان يخيّم على البيئة الشيعية العاملية غمام الجهل والأميّة وحالة من الجمود في تفكيرهم وعقليتهم، بسبب محاربتهم أيّ علم حديث والاكتفاء بالعلوم الدينية التقليدية. وكان دعا إلى عقد ذلك المؤتمر الزعيم السياسي حينها كامل بك الأسعد، وليس كما يشاع بأنّ السيد عبد الحسين شرف الدين كان هو صاحب الدعوة، رغم أنّه كان حاضراً. كانت المنطقة تشهد تحوّلات سياسية ضخمة أشبه ما تكون بتلك التي نشهدها هذه الأيام، مع مفارقة أن التكوّنات كانت تطال حينها الجغرافيا السياسية وتقاسم النفوذ بين الحلفاء المنتصرين حديثا على الدولة التركية، في حين أن التحوّلات الآن تطال الانظمة الحاكمة بشكل مباشر بدون المساس بالجغرافيا حتى اللحظة.
من المصادفات الغريبة أيضا أن جبل عامل كان محكومًا أمنيًا أيضا لثنائية شيعية عبارة عن مجموعتين عسكريتين، واحدة يترأسّها “صادق حمزة الفاعور” من قرية دبعال قضاء صور، والاخرى بقيادة “أدهم خنجر” وتضم عشرات المسلحين في منطقة الشقيف، وهاتان المجموعتان كانتا مرتبطتين لوجستيّا وأمنيا بالفرقة العسكريّة السورية المتمركزة بسهل حولا ومنطقة الجولان بقيادة الأمير محمود الفاعور.
أما الأسباب الحقيقية التي تقف خلف انعقاد المؤتمر فهي الرسالة التهديديّة التي وصلت إلى زعيم جبل عامل السياسي كامل بك الاسعد، من قبل قيادة الثورة في سوريا تطالبه فيها بإعلان موقف واضح وصريح من الانضمام إلى دولة لبنان الكبير المزمع إعلانه بحماية فرنسية، وبالتالي ابقاء جبل عامل ضمن الوصاية السورية، وإلاّ…
الجدير ذكره هنا أنّ الشعور الشعبي في جبل عامل أيضا كان منحازا في تلك الفينة الى التعاطف الساذج مع ثورة الحجاز، بقيادة الشريف حسين بن علي ووعده “بتصدير ثورته إلى جميع الاقطار العربية”.
هكذا كما حالنا اليوم تماما، فلم يقرأ شيعة جبل عامل للمتغيرات الدولية والسياسية التي طرأت على المشهد الدولي بشكل جيد، وكانوا أسرى بين خيارات قياداتهم الميدانيين المتعلقين بتهديدات مباشرة لهم تطل مصالحهم الشخصية، وبين مشاعر حماسية لا تمت الى الواقعية السياسية بأي صلة. فعمدو في ذلك المؤتمر المشؤوم على تبني خيارات استراتيجية برفض الانضمام الى دولة لبنان الكبير، وكأنهم قد قالوا في ذلك اليوم أيضاً: “شكرا سوريا”، فدفعوا ثمنها غاليا وبدون أي طائل.
لعلّ هذه المحطّة، “مؤتمر الحجير”، هي واحدة من إشكاليات تبلور الشخصية الوطنية اللبنانية عند الشيعي اللبناني، والتي عمل بعد ذلك الإمام موسى الصدر جاهداً على محو آثارها السلبية وتعب كثيرا من أجل إعادة زرع حسّ المواطنة والانتماء عند الشيعة الى لبنان الدولة القائمة. واغلب الظن انه دفع حياته ثمنا لهذه الغاية ..
في هذا السياق عينه، فإن الوعي الشيعي لا يزال حتى اليوم منقسما ويعيش صراعا معرفياً سياسياً بين مندرجات وادي الحجير الرافضة للدخول في منظومة الدولة اللبنانية، وبين تطلعات الامام الصدر باعتبار لبنان دولة لجميع ابنائه بمن فيهم الشيعة طبعًا.
للأسف فإنّ حزب الله لم يتعلم من تجارب التاريخ ويصرّ مرة جديدة على أخذ الشيعة إلى خيارات خاطئة مشابهة، عبر مغالطات ندفع بسببها، مرّة أخرى، أثماناً باهظة.