من المفهوم والمبرر ـ شرعاً وعقلاً ـ أن تلعب العاطفة دوراً أساسياً في طريقة إحياء ذكرى الإمام الحسين(ع)، لا لأنّ التفاعل العاطفي مع الذكرى أمر تفرضه طبيعة المأساة على كل ذي حسٍ إنساني فحسب، بل لأنّ إحياء الذكرى بالأساليب ذات المنحى العاطفي وربطها المستمر بالوجدان هو الطريق الأنجع لضمان استمرار قيم الثورة الحسينية وترسيخها في النفوس، إلاّ أنّ الأمر غير المفهوم ولا المبرر هو اعتماد "المنهج العاطفي" في قراءة ومحاكمة النص التاريخي العاشورائي.
القراءة العاطفية:
والقراءة العاطفية ليست حكراً على أحداث عاشوراء، وإنما هي صفة عامة اتسم بها معظم المؤرخين والباحثين في تعاملهم مع أحداث التاريخ الإسلامي، على الأقل في بعض مفاصله ومراحله التاريخية كما هو الحال في مرحلة الخلافة الأولى، حيث قدّموا بشأن هذه المرحلة ـ في أحداثها ورجالاتها ـ تقييماً عاطفياً أكثر منه تقييماً واقعياً، واعتمدوا معايير أخلاقية في دراسة الأحداث وتقييم الشخصيات، أوليست القراءة السائدة لأحداث صدر الإسلام وما جرى بعد وفاة النبي(ص) تتكئ على عنصر أخلاقي وهو حسن الظن بالصحابة، وتتخذ من عدالتهم المدعاة مرجعاً في تحليل الأحداث وتقييمها؟! الأمر الذي أدى إلى استخلاص نتائج لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وقدّم صورة ملائكية عن علاقة الصحابة بعضهم بالبعض الآخر، وهو الأمر الذي تكذّبه الأقوال والأفعال وتفضحه الوقائع والمعارك التي جرت فيما بينهم مما لا نريد الخوض فيه، إنّ القراءة العاطفية للتاريخ المنطلقة من مبدأ حسن الظن أو الإعجاب بهذا التاريخ ورموزه، والتي تسعى جاهدة للإصلاح بين الجماعات أو الشخصيات المختلفة فيما لا يمكن الإصلاح فيه قد أسهمت في ضياع الحقائق وتمييع الوقائع وساوت بين الجلاد والضحية وبين الصالح والطالح، وهذا ما عبّرت عنه بوضوح الجملة التي كتبها بعض المسلمين على ضريح الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي، والجملة هي: "هذا ضريح سيدي حجر بن عدي رضي الله عنه قتله سيدي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه!".
في مقابل هذه النظرة المفرطة في التفاؤل وحسن الظن، يقف أصحاب منطق القطيعة مع التاريخ الإسلامي والإدانة لكل منجزاته ورموزه، واعتباره تاريخاً مزوراً ومبنياً على باطل، وكل ما بني على باطل فهو باطل، إنّ هذه النظرة السوداوية المفرطة في التشاؤم وإساءة الظن مجافية للحقيقة وبعيدة كل البعد عن الميزان الشرعي الذي يدعو إلى الإنصاف والعدل في تقييم الأحداث والأشخاص، وإعطاء كل ذي حق حقه، قال تعالى:{ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}(المائدة:8).
وقد لاحظنا أنّ أمير المؤمنين(ع) وهو المعني الأول في أمر الخلافة لم يمنعه تجاوز الآخرين لحقه أن يقيّم الوضع الإسلامي في عهد الخلفاء تقييماً إيجابياً، عندما قال:"لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة"(نهج البلاغة).
فعلي(ع) ينحّي عاطفته ومظلوميته جانباً ويحكم بموضوعية تامة على واقع أمور المسلمين. وهكذا فعل الفقيه الكبير السيد أبو القاسم الخوئي(رحمه الله) عندما نفى أن يكون الخليفة الأول وكذا الثاني ناصبي العداوة لأهل البيت(ع) بحسب الظاهر، وإنما القضية هي الطمع في الرئاسة والسلطة(فقه الشيعة3/126)، وهذا الرأي أثار حفيظة بعض تلامذته فتعجب من كلامه واستغربه على اعتبار أنه أوضح شاهد على نصب العداوة هو الهجوم على دار الصديقة فاطمة الزهراء(ع) وإحراق بابها... إلى آخر كلامه(مباني منهاج الصالحين3/205)، والحقيقة أن السيد الخوئي لم يكن ليغفل عن هذه الأحداث، وأخاله قد أجاب عليها ضمناً عندما لخّص قضية الخلافة بالطمع في الرئاسة والسلطة، فإن الإنسان قد ينازع أحب الناس إليه في أمر الخلافة، وقد قالها هارون الرشيد لأحد أبنائه:"والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك فان الملك عقيم"(عيون أخبار الرضا(ع)2/86)، فمصادرة حق الغير لا تتلازم مع بغضه وكراهته، أو لم يكن بعض قتلة الإمام الحسين(ع) يحبونه وتفيض عيونهم دمعاً حزناً عليه، كما تدل على ذلك الكثير من الشواهد، ومنها كلمة الفرزدق الشهيرة عندما لقيه الإمام الحسين(ع) في الطريق وسأله كيف خلّفت الناس بالعراق؟ فأجاب: خلّفتهم وقلوبهم معك وسيوفهم عليك"(الأخبار الطوال للدينوري:245).
وخلاصة القول: إن التاريخ لا يقرأ بعاطفة، لأن العاطفة في جانبها الإيجابي(المحبة) أو السلبي (الكراهية) تعمي وتصم، وإذا استحكمت بالإنسان منعته من الرؤية الصحيحة للأحداث، ولذا فإن القراءة التحليلية لأحداث التاريخ إنما تكون ناجحة بمقدار ابتعادها عن المنحى العاطفي في تفسير الأحداث واعتمادها المنهج النقدي الموضوعي.
"ثقافة الخرافة":
إلى ما تقدم من مجانبة القراءة العاطفية لأحداث التاريخ للصواب، ومضافاً إلى السلبيات التي أشرنا إليها في مقالنا السابق عن نزعة التقديس، فإننا نعتقد أن من النتائج السلبية لتلك القراءة أنها سمحت بتسرب الخرافة إلى الخطاب الإسلامي عموماً والخطاب العاشورائي خصوصاً، وهذا أمر طبيعي في ظل غياب العقل النقدي واستقالته.
وما يدعو إلى القلق أن الخطاب المذكور الذي تسربت إليه الخرافة قد غدا خطاباً علنياً يسمعه الملايين من الناس من خلال المحطات التلفزيونية المجنّدة لهذه الغاية، والعلامة الفارقة في هذا الخطاب ـ مضافاً إلى اعتماده ثقافة القطيعة مع الآخر ـ إغراقه في الحديث عن المعاجز والكرامات دون تثبت من صحتها وواقعيتها، وإمعانه في سرد القصص الخيالية وغيرها من الحكايات التي هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقيقة، كما هو الحال في روايات كتاب "أسرار الشهادة" للدربندي، هذا الكتاب المشحون بالأخبار الواهية والقصص المجعولة على حد تعبير المحدّث النوري، الذي وإن لم يشكّك في إخلاص الدربندي، لكنه هاجم كتابه المذكور معتبراً أنه "ليس له أي وقع ولا اعتبار لدى علماء هذا الفن وجهابذة الحديث والسّير، بل إنّ الأخذ منه والاعتماد عليه يدل على ضعف الناقل وقلة بصيرته في الأمور"، ويضيف:"بل إن نفس المؤلف يعترف في كتابه بضعف رواياته ويبرز بعض العلامات الدالة على كذبها ووضعها، إلاّ أنه راح يبرر سبب نقله لها، فكان شريكاً فيما سببته تلك الروايات من الفساد"(اللؤلؤ والمرجان:201).
رحم الله المحدث النوري فقد أحسن وأجاد في كتابه هذا، إذ تحدث مفصلاً عن شرائط قراءة العزاء وارتقاء المنبر، وأشار في ثناياه إلى الكثير من الأكاذيب والقصص المجعولة والتي لا تزال إلى يومنا هذا تتلى على المنابر بكرة وعشياً، وأرى لزاماً عليّ أن أنصح أخواني قراء العزاء وكل الخطباء والوعاظ بمطالعة هذا الكتاب والاستفادة من مطالبه وفوائده الكثيرة.
هاجس إبكاء الجماهير:
ومن سلبيات الخطاب العاطفي الذي طبع قراءة العزاء على الإمام الحسين(ع) اختصاره لهذه النهضة المباركة بالدمعة وصور المأساة المروعة، فالذي يشغل اهتمام قارئ العزاء هو الجانب المأساوي، ويضعف اهتمامه باستعراض صور الملاحم والبطولة ودروس العزة والكرامة والإباء، وهكذا قد لا يتطرق أو لا يملك إمكانية التطرق للدور النهضوي والتغيري لثورة الإمام الحسين(ع)، في ضوء ذلك يصبح مقياس نجاح "الخطيب الحسيني" في مدى قدرته على إبكاء الجماهير واستثارة عواطفهم، واستدرار دموعهم، وإننا نلاحظ أن معيار تصنيف الخطباء ـ لدى عامة الناس ـ لا يأخذ بعين الاعتبار مدى علمهم وثقافتهم بقدر ما يأخذ في الاعتبار رخامة صوتهم ونداوته، الأمر الذي انعكس على الخطيب نفسه فصار هاجسه الأول والأخير هو إبكاء الناس وليس تثقيفهم.
قليل الحق يغني عن كثير الباطل:
إننا ندعو بصراحة إلى ضرورة التفكيك بين "العاطفة المثقفة" وبين "ثقافة العاطفة"، ففي الوقت الذي لا نمانع فيه بل نشجع ـ استلهاماً من وصايا أئمة أهل البيت(ع) ـ ربط المراسم الحسينية بالعاطفة، لما لذلك من دور فاعل في تثوير الأمة في وجه الظلم والطغيان، لكننا لا نريد لهذه العاطفة أن تصبح مجرد انفعال عابر أو متهور، وإنما نريدها عاطفة مثقفة واعية، لا تأسرها الدمعة ولا تسقطها المأساة. وأما "ثقافة العاطفة" التي تصادر العقل وتعتمد الأساليب الانفعالية التي تخرج الإنسان عن توازنه وتخلط بين الحق والباطل فهي ليست من الإسلام أو الشعائر الإسلامية في شيء، ولا تعتبر مصداقاً لإحياء أمرهم(ع) مما وردت الأحاديث في الحث عليه، لأن الإسلام يرفض الباطل شكلاً ومضموناً، ولا يقبل اعتماده في الوسيلة كما الغاية، فمنهج الإسلام يقدم على أساس أن نظافة الغاية لا بدّ أن ينعكس على الوسيلة، كما أن قدسية المضمون لا بدّ أن تنعكس على الشكل، وهذا ما يرشد إليه كلام الإمام الصادق(ع)، ففي نهاية حوار جرى برعايته بين أصحابه وبين رجل شامي، شرع(ع) في تقييم أداء كل واحد منهم، وكان مما قيّم به كلام أحدهم أن قال له: "إنك تمزج الحق مع الباطل، وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل"(الكافي1/173).