لا يمكن تفسير الفوضى المتنقلة بين المناطق سوى بكونها إمّا تنمّ عن تحلل الدولة وتفككها بفعل الأزمات المتداخلة وبالتالي هي عفوية، وإمّا انها مدبّرة وضمن خطة ترمي إلى استخدام الأمن وتوظيف الفوضى لتسريع التأليف.
لم يكن فريق 8 آذار في وارد التضحية بالحكومة لولا انفجار 4 آب الذي لم تتمكن حكومة الرئيس حسان دياب من الصمود أمامه، وقد اعترف السيد حسن نصرالله بذلك، لا سيما في ظل خشية هذا الفريق من أن يؤدي التمسّك بالحكومة إلى سقوط مجلس النواب الذي يمثّل، بالنسبة إليه، حجر الزاوية بفعل الأكثرية التي يمتلكها داخله ودور رئيسه، وبالتالي من الطبيعي ان يضحّي بالحكومة حفاظاً على مجلس النواب.
ومع استقالة حكومة دياب بدأ البحث عن حكومة جديدة على وقع دخول دولي قوي بسبب زلزال 4 آب، وقد تولّت باريس المسعى التفاوضي بتفويض من الأسرة الدولية، ما وضع فريق 8 آذار أمام الأمر الواقع، فهو لا يريد تأليف حكومة لا يسيطر عليها، وإذا كان يفضِّل استمرار الفراغ لما بعد الانتخابات الأميركية في حال لم ينجح بتشكيل حكومة بشروطه، إلا انه لن يفوِّت فرصة تشكيل حكومة يُمسك بمفاصلها وتستطيع فرملة الانهيار المالي من دون ان يضطر إلى تقديم تنازلات مؤلمة، لأنه يخشى ان يفقد الورقة اللبنانية التي لا تشكل غطاءً له فقط، إنما هي بمثابة ورقة تفاوضية يستخدمها في أي تسوية ممكنة تحسيناً لشروط دوره السياسي.
وتأسيساً على تجربة ما بعد العام 2005 يمكن القول انه تمّ توظيف العنف خدمة لمآرب سياسية أكثر من مرة وفي أكثر من اتجاه، بدءاً من حرب تموز 2006 بغية فرملة اندفاعة انتفاضة الاستقلال، مروراً بحرب أيار 2008 التي أنتجت "اتفاق الدوحة" الذي أعاد الثنائي الشيعي بقوة إلى المعادلة، وصولاً إلى محاكاة القمصان السود لتأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، واغتيال الوزير محمد شطح لتأليف حكومة الرئيس تمام سلام.
فاستخدام العنف شكّل وسيلة أساسية لانتزاع التنازلات من أجل تسويات يحافظ فيها فريق 8 آذار على دوره وأوراق قوته، مستفيداً من كون الفريق الخصم له غير محصّن في مواجهة الرسائل الأمنية، فنجح بتحقيق مآربه. وبالتالي، ليس هناك ما يحول دون استخدامه الوسيلة نفسها تسريعاً لولادة الحكومة العتيدة التي يريدها بشروطه وعلى قياسه، مُتّكئاً على انّ أخصامه المحليين والخارجيين يمكن ان يتجاوبوا مع رسائله تحت عناوين مختلفة تبدأ بـ"أم الصبي"، ولا تنتهي بأنّ الضرورات تبيح المحظورات.
ولذلك، لا يجب استبعاد احتمال ان تكون الفوضى المتنقلة جزءاً لا يتجزأ من أوراق التفاوض الحكومية كأداة ضغط على الداخل والخارج من أجل الموافقة على حكومة يستحيل الموافقة عليها لولا اللجوء إلى أسلوب الترهيب والتخويف والتهديد بالفتنة والحرب، فتخرج الدعوات المطالبة بتسهيل التأليف وضرورة تقديم التنازلات حرصاً على الاستقرار، كما انّ هذا المناخ يشكل غطاء لِمن كان يتعذّر عليه تغطية حكومة لا تتناسب مع متطلبات البلد وآمال الناس.
وإذا كان هناك من يخطّط ويعمل لتهريب حكومة تحت وقع الفتنة المتنقلة من أجل أن يحتفظ بأوراقه الحكومية وعدم الإقدام على أي تنازل قبل ان تتبلور الصورة الخارجية، فإنه لا يجب التقليل من احتمال ان تكون الحوادث الأمنية المتنقلة ناتجة عن مجموعة عناصر متداخلة ومرتبطة بانحلال الدولة: أزمة مالية خانقة وضعت أكثر من نصف الشعب اللبناني تحت خط الفقر؛ أزمة صحية مفتوحة ومتدحرجة فاقمت الأزمة المعيشية وولّدت أزمة نفسية؛ إنفجار 4 آب الذي شكّل النقطة التي أفاضت الكأس حيث فقدت الناس صوابها وقدرتها على مزيد من التحمّل؛ إنسداد في الأفق السياسي فلا حلول جدية وجذرية للأزمة إنما راوح مكانك والمزيد من الشيء نفسه؛ الفريق الحاكم يعيش في كوكب بعيد عن الناس وهو في غير وارد إعادة النظر بسياسته إذا كانت تفضي إلى تقليص دوره ونفوذه ومكاسبه؛ الخارج بين منشغل بأولوياته وبين مُشترط بربط المساعدات بالإصلاحات؛ الشعب منهك بفعل الهموم والضغوط والخوف على الحاضر والمستقبل والمصير؛ القوى الأمنية منهكة بفِعل حدة الأزمة المالية وغياب التوافق السياسي والغليان الشعبي...
فتجمُّع كل العناصر أعلاه لا يؤدي فقط إلى حوادث متنقلة، بل يفضي إلى فوضى ما بعدها فوضى، ويؤسّس لحروب ومواجهات، ولا يجب التقليل من خطورة تداخل الأبعاد الثلاثة: المالي والسياسي والاجتماعي، فهذا التداخل كاف لوحده بإحداث زلزال من وزن زلزال 4 آب، وبالتالي غياب المعالجات الجدية سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى دخول لبنان في نفق مظلم، والمعالجات الجدية لا تعني الترقيع كما يسعى أهل السلطة، لأنّ الترقيع أصبح كالدواء الذي فقد صلاحيته.
وعلى رغم خطورة هذا المشهد ومأسويته هناك من لا يزال يستخفّ بخطورة الاحتقان الاجتماعي ويعمل ضمن حدّين: حَد تشكيل حكومة قريبة لمواصفات الحكومة المستقيلة بما يضمن له شراء الوقت من دون تقديم أية تنازلات تُذكر، وحَد اللجوء إلى خطوات تحت عنوان تطوير الدستور ومدنيته والهدف منها السيطرة الكاملة على الوضع وضمان استمرار هذه السيطرة في حال حصول أي تبدلات او تسويات في المنطقة.
وما لا يدركه هذا البعض انّ الوضع بدأ يخرج عن السيطرة، وانّ اي محاولة للمَس بالتوازنات الميثاقية ستؤدي إلى تسريع وتيرة الانفجار، ويخطئ من يعتقد انه ما زال مُمسكاً بخيوط اللعبة، فيما أقصى ما يمكنه القيام به هو الحفاظ على موقعه ودوره في مرحلة عاد فيها البحث، ولو بخَجل، وعن طريق المرجعيات الروحية هذه المرة، حول مستقبل النظام السياسي، بين البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي يواصل تأكيده على خيار الحياد كمدخل لحل الأزمة اللبنانية، وبين مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان الذي شدّد على الولاء للبنان والتمسك بالدولة للخروج من النفق، والمفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان الذي نعى لبنان الكبير ودستور الطائف ودعا إلى الدولة المدنية مدخلاً إلى الديموقراطية العددية.
وفي كل هذا المشهد المتأزِّم تدور مفاوضات التكليف والتأليف في ظل ثابتة أساسية، وهي انّ فريق السلطة في غير وارد تقديم أي تنازل جوهري يساهم في فتح أبواب المساعدات المقفلة أمام لبنان، والأسوأ انّ هذا الفريق الذي أوصَل لبنان إلى الكارثة يواصل وضع الشروط وكأنه ما زال في موقع القادر والمقرر، فيما المصلحة اللبنانية العليا تتطلّب الابتعاد عن هذا الفريق والقطع معه نهائياً وتركه يكلِّف من يريد ويؤلف على طريقته وعدم تحمُّل أي مسؤولية بتاتاً معه سوى في حالة واحدة، وهي استعداده لتسوية نهائية لا مرحلية عنوانها الأوحد العودة إلى الدولة بشروط الدستور والميثاق والقانون.