بعد طول انتظار دام لأكثر من 15 عاماً، سقط خلالها كثيرون من خيرة رموز الحرية والفكر والرأي، ورجال الأمن، والمدنيون في لبنان، اخيرا حكمت المحكمة وجاء قرارها مجسداً لقصور كبير في مجريات التحقيق والمتابعة والتنقيب، بدأ بمهمات المحققين المتتابعين، الذين جاءوا الى بيروت وحاولوا جمع المعلومات اللازمة، والإحاطة بالظروف السياسية والأمنية التي أحاطت بجريمة العصر، والتمهيد لوضع القرار الاتهامي ،انشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أثار لغطاً وانقساماً، وقرارها أمس طرح ملابسات وتساؤلات حول النتائج البسيطة التي توصلت إليها، ولكنها أثبتت في الحالتين، الحرص على الابتعاد عن زواريب السياسة المحلية، وحاولت العمل بموضوعية وحرفية، بمنأى عن ضغوطات الصراعات الداخلية .
كل الأنظار اتجهت إلى حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي. لا أحد يسعى لتأجيج الحساسيات الفئوية، ولا من يرغب بتفجير الفتن المذهبية، وأصحاب الدم أعلنوا قبولهم بحكم المحكمة، وجمهور الرئيس الشهيد تقبل القرار على غموضه، ولكن ثمة علامات إستفهام كبيرة تُحيط بمجموعة من التساؤلات المشروعة قد يكون من الصعوبة بمكان العثور على أجوبة تشفي الغليل، قبل أن تتوضح معالم مرحلة ما بعد قرار المحكمة، والمسار الذي ستتخذه تطورات الأوضاع الراهنة، وهل سيكون باتجاه تعزيز سياسة الهيمنة والاستئثار، وتكريس أساليب الغالب والمغلوب، أم تغليب الحفاظ على قواعد المعادلة اللبنانية وتوازناتها الوطنية .
ما بعد الحكم، سيكون لبنان على مفاصل دولية تتحكم بكل المجريات السياسية على أراضيه. خاصة بعد كم المبادرات التي شهدتها الساحة اللبنانية في الأيام الماضية، وما ينتظر من استحقاقات لترجمتها عملياً. التحقيق في تفجير مرفأ بيروت يحصل بتعاون دولي، أي مساعدات مالية ستأتي من خلال صندوق النقد الدولي. وبالتالي لم يعد بإمكان لبنان أن يسير بعيداً عن الإجماع الدولي الذي يدفع إلى تكريس وقائع تحافظ على الإستقرار الداخلي ومع العدو الإسرائيلي.
بحسب المعطيات المتوفرة، فإن المبادرات التي عملت على خط تشكيل الحكومة قد توقفت، وربما تنتظر مزيداً من التطورات سواء ما بعد قرار المحكمة، وما سيرسيه من تداعيات، وما يفرضه من مقومات في عملية تشكيل الحكومة، التي على ما يبدو ستكون طويلة. وربما ستكون بانتظار زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الثانية في الأول من أيلول وزيارة ديفيد شينكر التي على ما يبدو أحيل إليها البحث في مختلف التفاصيل العالقة من ترسيم الحدود إلى غيرها من الملفات.
إقرأ أيضا : الاستشارات الملزمة مؤجلة حتى اشعار آخر
وكان من الملفت أعلان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في مؤتمر صحافي في المقر البطريركي الصيفي في الديمان، مذكرة لبنان والحياد الناشط.
وأشار الراعي الى أن المكون الأول في المذكرة هو عدم دخول لبنان في تحالفات ومحاور وصراعات سياسية وحروب إقليمية ودولية وامتناع أي دولة عن التدخل بشؤونه.
واعتبر أن الخطيئة الأصلية كانت باتفاق القاهرة الذي أعطى اللاجئين الفلسطينيين الحق في القيام بعمليات ضد إسرائيل انطلاقا من لبنان، وهنا فلتت المسبحة.
ودعا الأسرة العربية والدولية لتفهم الأسباب الموجبة التي تدفع غالبية اللبنانيين إلى اعتماد نظام الحياد الناشط.
وفي هذا السياق أصبح من الواضح أن لبنان سيكون أمام مفاصل هامة في المرحلة المقبلة، المفصل الأول يتعلق بتشكيل الحكومة ومهمتها في إنجاز الإصلاحات، أما المفصل الثاني فهو النقاش البرنامجي الذي فتحه الرئيس نبيه بري بإشارته إلى ان لبنان في العناية الفائقة وبحاجة إلى علمية جراحية لتطوير نظامه من خلال تطبيق دستور الطائف،هذا البرنامج الذي يطرحه برّي من شأنه أن يحافظ على لبنان من الإنهيار، ومن محاولات التقسيم التي يتعرض لها، وعلى ما يبدو أنه سيكون محور حركة سياسية واسعة في المرحلة المقبلة،بالاضافة الى المفصل الثالث المتعلق بموقف سيد بكركي من قضية موضوع الحياد .
في إطار إستمرار التواصل اللبناني بحثاً عن مخارج يؤكد بري وجوب البحث عن تسوية لبنانية لبنانية تحظى بموافقة دولية، لإبعاد لبنان عن الحرائق الدائرة حوله، أمام هذا الواقع كل مشاريع التسويات و التغيير، لم يجد اللبنانيون ضالتهم بعد. لماذا؟ لأن كل تلك العناوين لم تعد تلبّي طموحات الناس. لا يريد اللبنانيون مزيداً من الأزمات، لذا، هم يرغبون بالوصول الى بلد يحترم إنسانه، ويحاكي الأجيال الجديدة بنظام عصري لا يميز بين الأفراد على أساس طوائفهم او مذاهبهم، ولا يقيس القدرات بحسب المحسوبيات والوساطات والمحاصصات. لقد وصل اللبنانيون إلى مرحلة باتوا يبحثون فيها عن وطن جديد.
لا يُمكن لأي فرد في لبنان ان ينكر الحاجة الى ذاك الوطن. كيف؟ جرب اللبنانيون كانتونات الطوائف في الحرب والسلم. ماذا أنتجت؟ أزمات على كل المستويات في بلد لا يمكن تقسيمه بسبب صغر مساحته، ولا سيطرة فريق على آخر بسبب طبيعة ديمغرافيته.
لم يبق امامنا الا الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي تحترم الإنسان بحسب كفاءاته.
ختاماً وبالرغم من عدم تعرض الحكم إلى مسؤولية الحزب في عملية الاغتيال فإن هوية المحكوم وموقعه في هيكلية الحزب تؤشر إلى المسؤولية السياسية والاخلاقية لقيادة الحزب عن جريمة الاغتيال للرئيس رفيق الحريري، وما نتج عنها من ضحايا واضرار. لكن يبقى السؤال الملح: كيف سيواجه حزب الله كل هذه الضغوط؟ هل سيواجهها بالهروب إلى الامام وافتعال احداث تخلط كل الأوراق، أم سيواجهها بالتراجع إلى الوراء واجراء تقييم عقلاني يدفعه إلى تغيير سلوكياته السابقة، والانخراط فعلياً في المشروع السياسي الوطني .