يبشّر البعض، بأنّ سعر الدولار مُقبلٌ على مزيد من التراجع المستدام وصولاً الى مستويات تحت سقف 4 آلاف ليرة. وسواء كانت هذه التقديرات نابعة من خبث أو جهل أو حسن نية، فإنّها لا تضر ّكثيراً، لكنها تبيع الأوهام، وليس الوقت مناسباً لذلك.
في الصالونات وبعض المنتديات، أحاديث متنوعة وكثيرة عن مشهد اقتصادي تبدّل جزئياً. سعر دولار السوق السوداء تراجع، وسيتراجع اكثر في الايام المقبلة. البنزين والمازوت متوفران في الاسواق، على عكس الايام التي سبقت كارثة انفجار المرفأ. الخبز مؤمّن ولا بوادر أزمة، رغم احتراق الإهراءات وخروجها من الخدمة. الكهرباء شبه منتظمة وفق برنامج التقنين الأصلي، على عكس ما كان عليه الوضع قبل الانفجار، رغم انّ مبنى مؤسسة كهرباء لبنان دُمّر، ورغم الأضرار التي أصابت الشبكة في المناطق المحاذية للانفجار...
هذا المشهد، يريد البعض من خلال التركيز عليه، الإيحاء بأنّ الوضع قد يتغيّر، بفضل التحرّك الدولي باتجاه لبنان بعد الانفجار. ويسعى آخرون الى الايحاء بأنّ كل الأزمات السابقة كانت مفتعلة، وانها تبخرّت، لأنّ «المتآمرين» حققوا هدفهم بعد الانفجار! لكن الحقيقة، أنّ الأزمة الاصلية المرتبطة بالانهيار أصبحت أشدّ تعقيداً، وليس مستبعداً ان يكون الخريف المقبل موعداً لحقبة جديدة في طريق الجلجلة، ستكون أصعب وأقسى على الناس، في حال تعطّل مشروع تأليف حكومة جديدة، وبقي الوضع على ما هو عليه اليوم. وسنكون في مواجهة الحقائق التالية:
اولاً- خسائر اضافية ناجمة عن الانفجار تقدّر بما لا يقل عن 10 الى 15 مليار دولار.
ثانياً - خطة إنقاذية مُجمّدة وغير صالحة للاقلاع مجدداً، بسبب المعطيات التي استُجدّت، والتي تحتّم اجراء تعديلات جوهرية فيها.
ثالثاً- وقف كلي للدعم الذي يقدّمه مصرف لبنان حالياً، من السلّة الاستهلاكية وصولاً الى المحروقات والقمح والدواء... هذا الأمر تبلّغته الحكومة قبل ان تستقيل، بقرار صادر عن المجلس المركزي في مصرف لبنان، والذي ينصّ على وقف صرف أي دولار اضافي، بعد الوصول الى الاحتياطي الالزامي المقدّر بحوالى 17 مليار دولار. وهذا الرقم سنبلغه في غضون شهرين تقريباً.
رابعاً - ضغوطات اضافية على المالية العامة، في غياب أي امكانية لإقرار موازنة جديدة للعام 2021. مع الاشارة الى التراجع الكبير المتوقع في الايرادات، بما يعني الحاجة الى مزيد من تكبير حجم الكتلة النقدية لدفع الرواتب والانفاق الحتمي. بالاضافة الى استمرار دفع الفوائد على سندات الدين بالليرة.
خامساً- استمرار نمط تكديس الخسائر في المصارف بسبب ازدياد الركود، وبسبب الحاجة الى اقتطاع المزيد من المؤونات، لتغطية الخسائر الناجمة عن وقف الدولة دفع سندات اليوروبوند. وستضطر المصارف الكبيرة، الى بيع وحداتها في الخارج، بدءاً بمصر. ولن تكون صفقات البيع مربحة، ليس بسبب الوضع في لبنان فحسب، بل ايضاً بفعل النتائج التي تسبّبت بها جائحة كورونا حتى الآن. وقد تلجأ بعض المصارف الى استخدام احتياطي الارباح (Buffle zone)، لكن مصارف اخرى لا تملك هذا الاحتياطي، وستتعرض رساميلها الى ضغط اضافي.
سادساً- سوف تتعطّل مساعي التحقيق الجنائي (Forensic audit) في مصرف لبنان، رغم انّ علامات استفهام مسبقة كانت مرسومة حول النتائج التي يمكن أن يخرج بها هذا التحقيق. وليس مؤكّداً اذا ما كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قد عرض فعلاً ان يتولى البنك المركزي الفرنسي مهمة التحقّق من الوضع في مصرف لبنان، بدلاً من الشركات المقترحة.
هذا هو المشهد الحقيقي الذي يختبئ وراءه، ظرفياً ولفترة قصيرة زمنياً، المشهد الاصطناعي الذي يوهم الناس بأنّ الامور بعد الانفجار، ورغم المآسي الانسانية، افضل مما كانت عليه قبله. وقد يتفاجأ اللبنانيون، بأنّ نقطة التحوّل (turning point) التي يأملون من خلالها الوصول الى وضع أفضل، هي واقعياً نقطة تحوّل في اتجاه الاسوأ. وبالتالي، لن يكون سعر صرف الدولار في السوق السوداء منخفضاً في مثل هذه الصورة. وما نشهده اليوم، هو مجرد تراجع ظرفي سيزول لاحقاً، ولا علاقة له بالوضع الاقتصادي أو المالي.
هذا الواقع السوداوي محتوم، إلّا إذا حصلت اعجوبة تبديل المواقف والمعطيات. وحتى الآن، لا مؤشرات تشجّع على الاعتقاد انّ الاعجوبة ستحصل فعلاً.