في أقل من دقائق فقد لبنان مرفأه وإهراءاته وحلّ دمار شامل في مؤسساته ومنشآته في نطاق يزيد على 9 «كلم نار». إنها «بيروتشيما» مصغّرة أحيت في الذاكرة نكبة «هيروشيما» قبل يومين من ذكرى وقوعها الـ 75. فما الذي يعنيه ان تنقلب الصورة 180 درجة ويصبح لبنان بلا عاصمة؟! فبدل من ان يكون لبنان مطالباً بالاصلاح جاءت النكبة لتفتح باب الإعانات الدولية لترميم ما دمّر. فهل سنتقن المهمة؟
قبل أن يظهر لبنان اي نية او قدرة على تلبية مطالب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالإنابة عن المجتمع الدولي ومجموعة الدول والمؤسسات الدولية المانحة وتلك الداعمة للبنان، جاءت النكبة التي حلّت ببيروت ومحيطها لِتعفي المسؤولين اللبنانيين من كافة التزاماتهم وتعهداتهم بعد مرور سنوات على الوعد بالقيام بها، وليتحول لبنان بلداً متسوّلاً الدعم الدولي والعربي على كل المستويات، فهو يحتاج الى الكثير لتكون له عاصمة وليستعيد البلد حياته العادية.
ليس في ما سبق صورة متشائمة بمقدار ما تشكّل تعبيراً عن واقع الحال وما آلَ إليه الوطن الصغير، فكل ما كان ينتظره اللبنانيون والعالم من مسؤوليه أعفتهم النكبة التي حَلّت به من كل ما كان مطلوباً على ضخامته بين لحظة وأخرى. وعلى عكس ما كان قائماً قبل 4 آب استعاد البلد المنكوب صِلاته بالخارج، وفك الحصار الذي كان يطوّق السلطة من كل الجوانب والجهات، وتدفقت الاتصالات على رئيس الجمهورية ومعه مجموعة من المسؤولين من كل عواصم العالم الخليجية منها قبل الغربية، وأعلنت برامج للمساعدات العاجلة الإنسانية والطبية والنفطية من كل انحاء العالم، وهي التي سيتوّجها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بزيارته المرتقبة لبيروت في الساعات المقبلة تضامناً مع لبنان في وقت ظهر انّ البلد يحتاج الى كل شيء وربما احتاج الى رغيف الخبز، بعد فقدان إهراءاته والمستوعبات وكهربائه بعدما دمّرت المؤسسة الأم، وما يحويه المرفأ من مؤن غذائية. كما عمّت الورش لإعادة ما يمكن إعادته في المقرات الرسمية من السرايا الحكومية الى وزارة الخارجية وقصر بعبدا ومعها مجموعة من الوزارات والمؤسسات العامة والمدارس والكنائس والمساجد في وسط بيروت والاحياء السكنية المواجهة للمرفأ الذي تحوّل منطقة مدمّرة في شكل مذهل لم يشهد عليه أحد من قبل.
وبعيداً من التفاصيل، التي تحتمل مزيداً من الأوصاف التي لم يعرفها لبنان قبل النكبة والتقديرات الاولية للأضرار التي يتوقع الخبراء أنها تزيد عن مجموعة من المليارات من الدولارات التي يفتقدها لبنان عدا عمّا يهدد كثيراً من العائلات التي باتت بلا مأوى، تتطلّع الأنظار الى سُبل معالجة الموقف عبر مجموعة من المسؤولين الذين لم يتنبّهوا الى مكامن الخطر والقنابل الموقوتة في اكثر من منطقة من لبنان، وما كانت تحويه عنابر المرفأ خير دليل على هذا. ولذلك طرح السؤال الذي كان مطروحاً منذ اربعة عقود: كيف ستدير الدولة عملية إعادة الإعمار؟ وما هو مصير المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي؟ وما هي النتيجة التي يمكن ان تؤدي اليها المفاوضات الجارية مع مؤسسة «لازارد» لتحديد الخسائر بعدما فاقمت النكبة منها وزادت من حراجة ما يمكن أن يعيشه اللبنانيون دولة ومؤسسات وشعباً في هذه المرحلة بالذات؟
تعتقد المراجع التي تفكر بهدوء بعيداً من ردات الفعل ومحاولات استثمار ما حصل وتوجيهه في اتجاهات سياسية مختلفة، لتشير الى انه ليس أوان الحسابات السياسية الصغيرة، فليس ثابتاً انّ اهل الحكم قادرون على مواجهة الأزمة ولن يكون لهم اي مبادرة جدية، ليس لفقدان النية ولكن لفقدان القدرات السياسية والمادية عدا عن المصاعب التي تواجههم على اكثر من مستوى.
وتتوقف المراجع خصوصاً امام التدمير اللاحق للمؤسسات الخدماتية الكبرى، فمعظم الأحياء المنكوبة ستعيش ربما اياماً واسابيع بلا كهرباء ولا ماء، ومراكز إيواء المتضررين باتت خارج العاصمة وبعيدة عن اماكن السكن إن كان المتضررون قادرون على ترك ممتلكاتهم والانتقال الى مراكز إيواء بعيدة عنهم في ظل المصاعب التي ستواجههم على اكثر من صعيد.
بالتأكيد، تقول المراجع، انّ الدعم الدولي سيكون كبيراً كما هو مرتقب، فالقرارات الكبرى التي اتخذتها مجموعة من الدول ستظهر نتائجها في الساعات والأيام المقبلة، ولا سيما منها تلك التي تلامس الحاجات اليومية للمواطنين وتمسّ لحظات من حياتهم اليومية، من المستشفيات الميدانية الى المساعدات الغذائية قبل بلوغ مرحلة إزالة الردميات واعادة الاعمار التي تحتاج الى أشهر وسنوات عدة لا يقدر من اليوم كيف يمكن مواجهة كلفتها العالية.
لا تقف المراجع عند الانطباعات الأولية لِما حصل وهي تنتظر عبور المرحلة الأولى التي لا بد منها، وخصوصاً على مستوى جَمع جثث الضحايا، فالمفقودون ما زالوا بالعشرات، وهناك مئات المباني لا يقدّر من اليوم ما يوجد تحتها منهم، فمناطق عدة سوّيت بالأرض وتضررت البنى التحتية بكاملها لتنطلق بعدها برامج الدعم والمعالجة.
وعليه، كشفت مصادر ديبلوماسية عن مبادرة دولية تردد صداها في بعض المقرات الديبلوماسية في بيروت، وتتحدث عن احتمال ان تعلن مؤسسات دولية قرارات كبيرة ربما وصلت الى مرحلة اعلان بيروت منطقة منكوبة بناء على طلب الحكومة اللبنانية لتضع لبنان في حضن المجتمع الدولي، ليس من اجل مساعدة المسؤولين الذين خذلوه. فالتجارب كثيرة ومتعددة لا يمكن تجاهلها، وهي ما زالت في اذهان كل من تابع أداء السلطة في الأسابيع والأشهر الماضية التي لم تعرف من اين يمكن البدء بمعالجة الأزمة النقدية والمالية والاقتصادية، وزاد في الطين بلة فشلها في إقناع المجتمع الدولي بما يمكن ان يقدّمه للبنان انعكاساً للفشل في إدارة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والمواجهات التي قادها رئيس الحكومة مع المراجع الديبلوماسية الدولية والعربية والجهات المانحة من حكومات ومؤسسات دولية وإقليمية.
ولا بد من الإشارة الى الإجماع على هول ما حصل، وهو الذي تحقق عقب النكبة التي قلبت المعايير والمقاييس جميعها 180 درجة وسط مخاوف من سوء إدارة المرحلة إذا ما بقي الخلاف قائماً حول الخيارات الكبرى للسلطة والحكومة التي على ما يبدو ما زالت قائمة، والمعطيات التي تشير اليها ظاهرة في قراءة ما بين سطور المواقف والبيانات المغلفة بالشعارات الفضفاضة التي لن تعيد إعمار ما دمّر واستعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها.
ممّا لا شك فيه انّ توصيف «النكبة» سيسمح بكثير مما لا يوجب الإشارة اليه، ولكن ما هو مطلوب بإلحاح هو ان يتعهّد اللبنانيون بالتضامن لعبور الأزمة التاريخية، فالاوضاع انقلبت في دقائق معدودة وما بعد 4 آب غير ما قبله، ليبقى سؤال وحيد يُجمع عليه اللبنانيون: ما هو المنتظر في الايام المقبلة وعلام نحن مقبلون؟