كان البطريرك الراحل مار نصرالله صفير حاسماً موقفه المبدأي المعارض اتجاه "الإحتلال" السوري للُبنان، والذي كان مُغطّىً بعصر الوصاية الإقليمية والدولية على لبنان( ذلك أنّ الوجود السوري في لبنان كان يحظى بموافقة إقليمية ودولية)، وفي حين كانت دمشق قِبلة السياسيين والمسؤولين الحكوميين اللبنانيين( وفي مقدمهم الرؤساء)، رفض البطريرك الراحل مار نصرالله صفير زيارة دمشق، منعاً لإعطاء أي غطاء شرعي للوجود السوري في لبنان، وقام بعد ذلك برعاية لقاء قرنة شهوان السياسي الذي رسم سياسةً اعتراضيّة لعهد الوصاية السورية، والتلاعب ببنود اتفاق الطائف.
إقرأ أيضا : دياب القوي ينضم إلى مجموعة أقوياء الطوائف.
وعندما حانت فرصة الخلاص من ذلك العهد البائس، تنفّس اللبنانيون الصعداء، وأملوا أن ينتقلوا مع خروج القوات السورية عام ٢٠٠٥، بعد أن كانت قد خرجت القوات الإسرائيلية مدحورةً عام ٢٠٠٠، إذ بهم يقعون هذه المرّة في قبضة الهيمنة أو " الوصاية" الإيرانية، بواسطة حزب الله، الحزب المُنظّم والمُسلّح والمُستند لقاعدة شعبية واسعة وعريضة، ووقع اللبنانيون ضحية تحالف هذا الحزب مع التيار الوطني الحر، الذي أمّن له غطاءً مسيحياً وازناً وضرورياً له، وتخبّط لبنان خلال هذه الفترة الماضية التي بلغت حتى الآن خمسة عشر عاماً في أزماتٍ عدّة، لعلّ أخطرها وأعقدها الإنهيار المالي والاقتصادي، نتيجة تفشّي الفساد ونهب المال العام، وجرّاء وقوع لبنان بكامله تحت هيمنة حزب الله وتحالفه مع التيار الوطني الحر، التيار الذي ضرب أمثلةً لا تُحصى في الفساد وهدر المال العام وتخريب المؤسسات العامة، وقد ساهمت مختلف أطياف الطبقة السياسية الفاسدة التي تتمسّك بمقاليد السلطة والحكم في توطيد عهد الهيمنة الإيرانية الحالية، ولم يتّخذ البطريرك الحالي بشارة الراعي موقفاً مبدئياً حاسماً بمعارضة هذه الهيمنة الحزبية المُسلّحة، لا بل دأب وفي محطّاتٍ عدّة على تغطية موقع الرئاسة الأولى، والغارقة حتى أذنيها في تغطية وتبرير وجود السلاح غير الشرعي، والهيمنة على مرافقَ عدّة أمنية واقتصادية في البلد، حتى خرج على اللبنانيين منذ أيامٍ بموقفٍ جريئٍ مُطالباً باستعادة الشرعية لسيادة البلد واستقلاله، ورأى كثيرون في ذلك ربما بادرة أملٍ في انطلاق مرحلة جديدة في مواجهة هيمنة حزب الله على شؤون لبنان وحياته السياسية والعسكرية والأمنية .
إلاّ أنّ الآمال سرعان ما تبخّرت بزيارة مفاجئة لغبطة البطريرك الراعي لقصر بعبدا ولقائه مع رئيس الجمهورية، وتصريحاته عقب ذلك، بالعودة لتدوير الزوايا، وتجهيل الفاعلين الأصليين المُسبّبين لأزمات البلد المتفاقمة، ما يجعلنا نقول وبضميرٍ مرتاح: شتّان بين بطريركٍ راحلٍ وبطريركٍ مُقيم.