في غمرة الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية والمعيشية والحياتية التي تعانيها البلاد هذه الأيام، ويتخبّط في أتونها المواطنون اللبنانيون منذ أكثر من ثلاث سنوات مضت، والتي تفاقمت بعد انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول عام ٢٠١٩، واستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري وتأليف حكومة الرئيس دياب، الحكومة العاجزة عن اتّخاذ أي قرار سيادي أو تدبير إصلاحي، أو احترازي يوقف تدهور معيشة المواطنين أجمعين، جاءت احتفالات مهرجانات بعلبك الدولية هذا العام صاخبةً بالموسيقى وتراث الرحابنة وفيروز ونصري شمس الدين وصباح ووديع الصافي، وإبداعات جبران خليل جبران بصوت رفيق علي أحمد، وهذه الإحتفالية الموسيقية في مدينة الشمس بعلبك بقيادة المايسترو المبدع هاروت فازليان، وجوقة موسيقية ضخمة مؤلفة من مائة وسبعين عازفاً وعازفة.
استقبل اللبنانيون هذه الإحتفالية بغبطةٍ وحبور كبارقة أمل بعودة الروح للنّشاطات السياحية وإحياء بعض المرافق التي شارفت على اليأس والهلاك، وكان مُفيداً ومُبهجاً إجماع القنوات التلفزيونية والإعلامية على نقل الحدث من قلب هياكل قلعة بعلبك التاريخية، كما كان مُحبطاً أن تتفرّد قناة المنار( المُمانعة) عن نقل الحدث، في السياسة لا تبرير مُقنعاً لهذه المقاطعة، ماذا يتبقّى إذن غير إصرار حزب الله، عبر منظوماته الاجتماعية ومؤسساته الخاصة، على تعميم ثقافة الحجاب والحظْر وتحريم سماع الاغاني والألحان، والإختلاط الاجتماعي مطلع كلّ صيف، وذلك في الأسواق والمنتجعات السياحية والمسابح العامة والخاصة والاحتفالات العامة.
إقرأ أيضا : جوزيف أبو فاضل ينثر سمومه الطائفية بلا حسيبٍ ولا رقيب
فيما يختص بمنع بثّ الموسيقى التي صدحت في هياكل قلعة بعلبك منذ يومين على قناة المنار، فلربما كان وراء ذلك الفقه الذي ما زال يُدرج مسائل السِّماع (سِماع الأغاني والألحان ) في دائرة الحرام، هذا في حين كان الإمام أبو حامد الغزالي( توفي عام ٥٠٥ للهجرة وصاحب كتاب إحياء علوم الدين) قد جزم الأمر بأن ردّ على قول القائل : السماع حرام، بأنّ معنى ذلك أنّ الله تعالى يُعاقب عليه، وهذا أمرٌ لا يُعرف بمجرّد العقل بل بالسمع، ومعرفة الشرعيات محصورة في النّص أو القياس على المنصوص، ونعني بالنّص ما أظهرهُ الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله أو فعله، فإن لم يكن فيه نصٌّ ولم يستقم فيه قياسٌ على منصوص، بطل القول بتحريمه، وبقي فعلاً لا حرَج فيه كسائر المُباحات، ولا يدُلّ على تحريم السماع نصٌّ ولا قياس، ويستدل الإمام الغزالي على فتواه هذه بتفنيد ما يقضي به النّص والقياس.
أمّا القياس فهو أنّ الغناء اجتمعت فيه معانٍ ينبغي أن يُبحث عن أفرادها ثمّ عن مجموعها، فإنّ فيه سماع صوتٍ طيّبٍ موزون مفهوم المعنى مُحرّك للقلب، والوصف الأعمّ أنّه صوتٌ طيّب، وسماع الصوت الطّيّب من حيث إنّه طيب لا ينبغي أن يُحرّم بل هو حلالٌ بالنّص والقياس، أمّا القياس فهو يرجع إلى تلذُّذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوصٌ به، والأصوات المدركة بالسّمع تنقسم إلى مُستلذّة كصوت العنادل والمزامير، ومُستكرهة كنهيق الحمير وغيرها، أمّا النّص: فيدُلُّ على إباحة سماع الصوت الحسن امتنان الله تعالى على عباده إذ قال: ( يزيدُ في الخلق ما يشاء)، فقيل هو الصوت الحسن، وفي الحديث: ما بعث الله نبيّاً إلاّ حسن الصوت، وفي الحديث في معرض المدح لداوود عليه السلام: أنه كان حسن الصوت في النّياحة على نفسه وفي تلاوة الزبور حتى كان يجتمع الإنس والجن لسماع صوته. وتُرفعُ الجنائز من مجلسه، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في مدح أبي موسى الأشعري: لقد أُعطِي مزماراً من مزامير داود، وقول الله تعالى: إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير، يدُلّ بمفهومه على مدح الصوت الحسن.
ومن أراد الاستزادة في حشد الأدلة والبراهين والأحاديث والسنن الإسلامية التي لا ترى مُنكراً في السماع المُنزّه عن المحرّمات والكبائر يمكنه العودة لمؤلف الإمام الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين، الجزء الثاني، بيان الدليل على إباحة السماع.