يوماً بعد يوم، يُسدّ ما تبقّى من ثغرات في جدار الأمل، ليصبح لبنان أقرب إلى جبل الجليد الذي باتت تحته نيران كافية لإذابة المياه التي تحمله، قبل أن ينهار.
هذا التوصيف ليس من قبيل المبالغة، فالمؤشرات كلها تؤكد بأنّ لبنان ذاهب إلى مصيره الأسود، إلّا إذا حدثت معجزة في زمن لم يعد يعترف بالمعجزات، لا الداخلية ولا الإقليمية ولا الدولية.
في الداخل، ما زالت الرؤوس الحامية من هذا الفريق السياسي أو ذاك ماضية قدماً في تسخين الأجواء السياسية، كأنما اختارت - أو معظمها - سلوك طريق اللاعودة، مراهنة على أنّ الانهيار نفسه قد يولّد لديها فرصة لإعادة تجديد مصالحها، وإن كان ذلك على حساب خسارة ما تبقّى من وطن بات عاجزاً في سنّ المئة عام.
كل السلوك السياسي يوحي بأنّ كل المنظومة باتت موضع شك، على نحو يتجاوز كل الاختبارات التي مرّت بها، من «الصيغة الفريدة» عام 1943، مروراً بالثورة - الحرب الاهلية المصغرة - عام 1958، وبعدها الحرب الأهلية الكبرى عام 1975، وصولاً إلى اتفاق الطائف وكل ما تبعه من تحوّلات، كان أخطرها محطة العام 2005 المشؤومة.
اليوم، باتت المنظومة منتهية الصلاحية، بفعل الأزمة الاقتصادية التي بات معها لبنان على مسافة خطوة واحدة أو أقل من الانهيار، وهو ما يَشي بأنّ تقاطع المصالح الاقتصادية - السياسية التي حكمت العلاقات الداخلية بات شيئاً من الماضي، بما ينقل البلاد إلى مرحلة جديدة، ربما تتطلّب، وفق المنطق الحاكم، عقداً سياسياً - اقتصادياً - اجتماعياً جديداً.
السؤال الجوهري لم يعد اليوم يرتبط بتغيّر المنظومة الحاكمة، أو حتى بقاء لبنان، كما عرفناه، فهذه فرضية تقترب من أن تكون بديهية، وإنما في الثمن الذي سيُدفع للخروج بشكل جديد من أشكال التوافق الداخلي، أو بمعنى الفاتورة التي سيدفعها الشعب المغلوب على أمره أمنياً ومعيشياً واقتصادياً.
أن يتجاوز الدولار في السوق السوداء سقف الثمانية آلاف ليرة، بينما السعر الرسمي مستقر بشكل مصطنع عند 1507 ليرات، ومعه السعر الموازي عند ما يقرب من أربعة آلاف ليرة... إلى آخر التسعيرات المستحدثة في السوق، فهذا يعني بكل بساطة أنّ لبنان - الدولة الفعلية بات مجرّد رقم وهمي، في حين أنّ لبنان - الدولة الفاشلة بات حقيقة راسخة، تنتظر التخلي عن حالة الانكار.
حتى المجتمع الدولي لم يعد يتعامل مع لبنان على أنه دولة قادرة على النهوض مجدداً، فهو بالنسبة إلى الأميركيين والأوروبيين والعرب - وحتى الروس والصينيين اذا سلّمنا باحتمالية الاتجاه شرقاً - حالة ميؤوس منها، والاستثمار فيها، بلغة المال والاعمال، استثمار فاشل.
هذا ما يجعل الكل ينظر إلى ما يمكن فعله خلال الأشهر القليلة المقبلة - وربما قبل بلوغ لبنان رسمياً مئويته الأولى - هو التحسّب لتداعيات الانهيار القادم، وليس كما يُشاع، في سياق حالة الانكار السائدة سياسياً، العمل على إنقاذه.
تبدو المعادلة هنا بسيطة للغاية: لا مال... إذاً لا إنقاذ. تِبعاً لذلك يمكن تَوقّع مصير البلد مع النَعي المبكر للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ومن أحدث نسخه تصريحات رسمية من قبل أعلى مسؤولة في الصندوق بشأن صعوبة التوصّل إلى اتفاق، ترافقت مع تفكك للفريق اللبناني المفاوض نفسه، والذي تبدّى منذ اللحظة الأولى من خلال الاختلاف على الأرقام، وصولاً إلى استقالة مدير عام وزارة المالية بالأمس.
كل ما سبق لا يمكن فصله عن سياق إقليمي قد تكون تداعياته أكثر خطورة من الصراعات الداخلية - حتى بطابعها المعهود باعتبارها امتداداً لصراعات الخارج - فما يحيط بلبنان اليوم ليس مجرّد «شَد كباش» خارجي، وإنما مسار جديد قد يفتح فصلاً غير مسبوق في المنظومة الاقليمية - الدولية التي يدور لبنان في فلكها، ويتأثر بعواصفها.
ثمّة خط زمني يمكن تَتبّعه لمعرفة ما الذي ينتظر لبنان اليوم. هو خط يبدأ في العام 1993، حين أتت النسخة الأولى أو بالأصَح المصغّرة من الانهيار المالي، لتؤدي وظيفة محددة، تمثّلت حينها بإعادة بناء الاقتصاد اللبناني - وامتداداً لذلك بطبيعة الحال الدولة اللبنانية - على الأساس الذي يمهّد لالتحاق لبنان بالمشروع الاقليمي، المتمثّل حينها بمؤتمر مدريد وتَتمّاته.
ما حدثَ طوال 12 سنة تلت هو انّ الصراع الداخلي في لبنان اختُزل بثنائية هونغ كونغ - هانوي، فكانت الأولى تعني الاستعداد للحاق برُكب التسوية، والثانية كانت تعني الذهاب في خيار المقاومة، أو بمعنى آخر عدم التسليم بالواقع المُراد فرضه إسرائيلياً - أميركياً. وضمن هذه الثنائية كسب لبنان معركة الوقت، برغم كل ما دفعه من أثمان غالية في الحروب الاسرائيلية على أرضه وشعبه.
مع انهيار التسوية الإقليمية، نتيجة لمتغيرات لم تعد خافية، كان لا بد أن يكون للواقع الجديد انعكاسات على لبنان، وهو ما حصل بالفعل مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وهما الحدثان اللذان فرضا معادلة جديدة حاكمة للمنظومة اللبنانية، تراكمت معها الأزمة السياسية على مدار عقد من الزمن ونيّف، بموازاة تراكم الأزمة الاقتصادية، لتنفجر الأزمتان معاً - امتداداً لبعضهما البعض - في لحظة إقليمية مفصلية، تتمثّل اليوم في صفقة القرن وخطة الضم الإسرائيلية.
ليس من قبيل المبالغة الربط بين العامل الداخلي والإقليمي لتَوقّع الانهيار المحتوم لجبل الثلج اللبناني. اليوم، بات الخارج يريد أن يحمّل لبنان ثمن مقاومته، وهذا هو فحوى السردية القائمة منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة حول «دولة حزب الله» و«حكومة حزب الله»... إلى آخر تلك المصطلحات، التي تَشي بأنّ الهدف المنشود خارجياً هو إسقاط «حزب الله» من بوّابة إسقاط الدولة اللبنانية، وهو بالضبط المخطط الجاري حالياً، والذي لم تعد معه الأزمة الاقتصادية الممهّدة للانهيار مجرّد صناعة لبنانية بحتة، رغم أنّ الصناعة اللبنانية الفاسدة قد أسهمت بالتأكيد في ما وصلنا إليه.
هذا المنطق نفسه، يجعل الحديث يتجدّد اليوم عن احتمالات عدوان إسرائيلي على لبنان تزامناً مع الأزمة الاقتصادية التي أرجعَت لبنان بالفعل إلى العصور الوسطى، والمرشّحة إلى أن تُرجعه إلى العصر الحجري، على النحو الذي طالما هَدّد به القادة العسكريون والسياسيون في إسرائيل منذ سنوات، وهو أمرٌ قد لا يحتاج سوى إلى فتنة داخلية أطَلّت برأسها في أحداث 6 حزيران، أو اعتداء إسرائيل على ما تبقى من بنية تحتية مهترئة!