سادت في أواسط خمسينيات القرن الماضي في المنطقة العربية نقاشاتٍ وسجالات حول الإنتماء للشرق أو للغرب، تُعبّر عن اختلافات وحساسيات ترشح دائماً بموقف نفسي، وغالباً ما كانت تتحكّم بهذه الاختلافات الانقسامات المُجتمعية بين أهل اليمين وأهل اليسار، أو بين المحافظين والتّقدّميين، أو بين سوسيولوجيا التّغيُّر والتّقدم وسوسيولوجيا الثّبات والجمود، هذا دون أن نُغفل من كان يرى بأن يوضع "حاجزٌ" واقٍ بين منظومتي الشرق والغرب وذلك بمقولتين مطلقتين: الشرقُ شرقٌ والغربُ غربٌ، ولكلّ منهما طبيعته الجوهرية المختلفة وخصائصه المُميّزة، وغنيٌ عن القول أنّه خلال تلك الفترة التاريخية المشحونة بالمواقف العنصرية والتّفوّقيّة، كانت التيارات والنزعات الثقافية التي تدعو إلى تفاعل الثقافات المختلفة وتجاوز الانقسامات العنصرية ضعيفة جدّاً، لا بل يمكن القول أنّها كانت شبه معدومة.
إقرأ أيضا : السيد علي الأمين من جديد في قفص الاتهام بالعمالة والتخوين
في تلك الحقبة كان الغرب في الرّؤى الشرقية تُمثّلهُ أوروبا وأمريكا الشمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية التي حسمت بتدخّلها في الحرب العالمية الثانية القضاء على النازية والفاشية، وكان الاتحاد السوفيتي الذي خرج منتصراً في حربٍ طاحنة مع النازية الألمانية، يرمزُ للشرق الناهض من كبوته، والساعي للخلاص من الفترة الاستعمارية الغربية التي سادت في المنطقة العربية بفضل دعم الاتحاد السوفيتي له، وتعزّز الاتجاه شرقاً بعد نجاح الانقلابات العسكرية في مصر وليبيا والسودان والعراق وسوريا، وتحرُّر الجزائر، ولم يبخل الإتحاد السوفيتي على هذه الأنظمة بالدعم والتّحشيد العسكري، وقابلتهُ الأنظمة بالولاء واستنساخ التجربة الستالينية في التنظيم الحزبي الواحد ومصادرة الحريات وسيادة الفكر الشمولي، قبل أن يذهب كل هذا أدراج الرياح مع زوال الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، ودخول العالم في دوامة العولمة التي تحيا البشرية في ظلّها اليوم، فضلاً عن الانتفاضات العربية التي توالت فصولاً لزحزحة الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي، وظلّ لبنان في منأىً عن هذه التطورات حتى وصلنا اليوم إلى ما نحن فيه من مأزقٍ خانقٍ على كافة المستويات، ومحاولة حزب الله جرّ لبنان إلى صراعٍ شرقيٍّ غربي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وقد دعا إلى ذلك صراحةً السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله، إذ طالبَ بنبذ الغرب والاتجاه نحو إيران والصين، وهي دعوة حالمة وغير قابلة للتطبيق، ومحفوفة بمخاطر عدّة، ورهاناتٍ قاتلة لا مجال لخوضها في هذه العُجالة.
سأل صحافيٌ أواسط القرن الماضي الرئيس الراحل عادل عسيران، في حمأة الصراع بين الشرق والغرب، عن انتمائه وتأييده لأحد هذين القطبين، فقال بعد برهةِ صمتٍ وتفكير: ما لنا ولهذه المماحكات! نحن ضدّ بيت الأسعد، واللبناني اليوم لم يعُد يهُمّه هذه المماحكات والانتماءات بين شرقٍ وغرب، أصبح همّه وللأسف الشديد أن لا يجوع أو يعرى، أو يموت على أبواب المصارف والمستشفيات، أو لا يقوى على تعليم أبنائه، وعادت أخبار " سفربرلك" السّيئة الصِّيت تقُضُّ مسامع اللبنانيين، وصورتها المرعبة ما زالت ماثلة في ذاكرة الأجداد والآباء، يتناقلوها جيلاً بعد جِيل، وقد باتت أقرب إليهم من حبل الوريد.