ينتقل الرئيس حسّان دياب أكثر فأكثر إلى حالِ الضياع. في الأشهر الأولى، كان «مدركاً طريقه، واثقاً من نفسه» بأنّه مدعومٌ من جماعة لن تتخلّى عنه، لأنّه يمثّل مصالحها. أما اليوم، فالأرجح أنّه لم يعد يفهم ما يجري حوله... سوى أنّ الخراب آتٍ!
عندما جاء دياب إلى السلطة، كان يدرك أنّ «حزب الله» وحلفاءه سيحرِّكون حكومته بـ«الريموت كونترول» ويتخذوا القرارات عملياً. وقد ارتضى دياب ذلك، لأنّها كانت فرصته لدخول نادي رؤساء الحكومة. وعلى العكس، اعتقد أنّ وجود فريق سياسي قوي يدير الحكومة سيوفِّر عليه عناء اتخاذ القرارات. لذلك، حمل دياب سيف القوى التي جاءت به إلى السلطة، ونزل إلى الساحة.
طلب منه «حزب الله» و«التيار الوطني الحرّ» رأس حاكم المصرف المركزي. الطرفان لهما مصلحة في التخلُّص منه وخلق معادلة جديدة داخل القطاع المصرفي: «الحزب» يريد قطع دابر الحضور الأميركي في مصرف لبنان، و«تدجين» القطاع المصرفي عموماً. و«التيار» يريد التخلُّص من سلامة لضرورات مصلحية.
وبالفعل، بدأ دياب تنفيذ المهمَّة بحماس. فكانت جولاته الساخنة مع سلامة. حتى إنّه تجاهله هو والمصارف في إعداد الخطة المالية. ويبدو أنّ الرجل يتمتع بنعمة المفاخرة بنفسه في شكل غير محدود. ولذلك، أعلن بكل ثقة أنّه أنجز 97% من وعوده. طبعاً هو لم يفصِّلها ولم يفصِّل الـ3% الباقية. ولكن، الأرجح أنّه أدرج إزاحة سلامة و«تدجين المصارف» من ضمن الأرباح المحقَّقة.
حمَّسوه فتحمَّس. وكان واثقاً أنّهم «سيحلبون صافي» معه، مهما حصل. ولكن، الحسابات على الأرض خيّبت ظنَّه.
اصطدم دياب بالرئيس نبيه بري مراراً. أفهمه رئيس المجلس أنّ «له حدوداً عليه التزامها». ثم وقف بري بصلابة ضد تطيير سلامة. وهو ينتظر الحكومة «على الكوع» في المجلس النيابي.
وتعرَّضت الحكومة لمواجهة عنيفة بين الشريكين المارونيين في الحكومة: «التيار» و»المردة». «حزب الله» التزم جانب الحياد بينهما. لكن دياب أصيب بالإرباك، لأنّه موعود بالمكاسب من تحالفه مع فريق رئيس الجمهورية. وهذا ما حصل.
وجد دياب أنّ استمراره في موقعه يستدعي أن يخلع عنه ثوب الشفافية التي وعدَ بها. فأقدم على تعييناتٍ تترجم المحاصصة بين أهل السلطة كما كانت في «حكومات الفساد» التي ينتقدها. ويُقال إنّ له حصّة في هذه التعيينات. وهكذا، أسقط قشرة الإصلاح الرقيقة التي كان يفاخر بها.
مع ذلك، بعد أيام، رفع سقف خطابه الإعلامي في مواجهة الفساد وأعلنها حرباً لا هوادة فيها على الفاسدين… ولكن إن وُجِدوا. فعلى مدى 4 أشهر من عمر الحكومة، لم يعثر دياب على فاسدٍ واحد.
لكن الإرباك الحقيقي الذي يعيشه دياب اليوم هو الآتي: كان في ظنّه أنّ الخطوة التالية، بعد تعيينات المركزي ولجنة الرقابة، ستكون إقالة سلامة. لكنه اكتشف أنّ المسألة أكبر من ذلك. ففي خضمّ المواجهة الأميركية- الإيرانية، تختلط الأوراق بقوة على الساحة الداخلية، ويصعب على المحور الحليف لإيران أن يلعب «صولد» ضد الولايات المتحدة.
تبيَّن أنّ مرجعيات في الحكم ليست راغبة في الذهاب إلى التحدّي مع واشنطن، وأنّها لا ترغب في خوض مغامرة بحجم إزاحة سلامة التي تثق به في هذا الموقع. وزيارة سفيرة الولايات المتحدة للقصر الجمهوري في ليلة التعيينات كافية لترجمة هذا المناخ.
ليس هناك طرف يتمتع بالحدّ الأدنى من الواقعية يجرؤ على مغامرة من هذا النوع. والواضح أنّ الرئيس ميشال عون وضع دياب في الصورة. وكذلك، يتعاطى «حزب الله» مع المسألة براغماتياً، عشية البدء بتنفيذ قانون «قيصر» الذي يخشى «الحزب» تداعياته اللبنانية بكثير من الجدّية والتهيُّب.
للمرّة الأولى، بدأ التعاطي يختلف بين القوى النافذة في الحكومة وكل من سلامة وجمعية المصارف، التي بدت شديدة الارتياح. وواكب ذلك موافقة المركزي على ضخّ الدولارات يومياً في سوق الصرّافين.
ربما يعتقد «حزب الله» وحلفاؤه أنّ جزءاً من هذه الدولارات يمكن أن يشكّل متنفساً لنظام الرئيس بشّار الأسد، من خلال طرق مختلفة. في المقابل، قد يجد سلامة أن لا بأس بتدبير يؤدي إلى تليين المناخ العدائي تجاهه وتجاه المصارف، ولو مرحلياً. وفي كل الأحوال، دياب مربك في التعاطي مع الملف. لذلك، هو يلتزم الصمت.
لكن الإرباك الأكبر يعيشه «حزب الله»، بسبب القسوة المنتظر أن يتجّه إليها الواقع المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي… وربما الأمني، في الفترة المقبلة. ويعتقد البعض أنّ «الحزب» تأرجح في الأيام الأخيرة بين حالتين متناقضتين:
الأولى هي الرغبة في شحن الشارع لتبرير إزاحة دياب والعودة إلى تركيبة حكومية أكثر تطميناً، ربما يعود فيها الحريري إلى السلطة. والثانية هي الرغبة في استثمار الانهيار النقدي لإسقاط سلامة.
فليس سهلاً أن يقرِّر «الحزب» أي اتجاه يجب أن تسلكه الحكومة في ذروة المواجهة مع الأميركيين. فهو من جهة يرفض الرضوخ لهم، ويجاهر بأنّه سيدعم نظام الرئيس بشّار الأسد في مواجهة العقوبات. ومن جهة أخرى، هو يدرك أنّ إغضاب واشنطن له عواقب وخيمة جداً، ولا يمكن تقديره.
في هذه الأجواء، ثمة من يرى أنّ البعض يعمل من أجل «ميني صفقة» بين القوى الداخلية، بهدف تحقيق إدارةٍ أكثر توازناً للبلد في هذه المرحلة الحسّاسة. الجميع يحتاج إلى هذه التسوية الصغيرة، ولاسيما «حزب الله». وأما دياب، فقد يواكبها او يكون ضحية لها.
أما الإرباك الحقيقي، فهو ليس في أجندة الرئيس حسّان دياب ما سيفعله في اليوم التالي. يبدو أنّه يتكلّ على القوى التي جاءت به: هي تطلب منه فيفعل. ترى ماذا سيفعل الرئيس حسّان دياب؟