وجدت جمهورية الخوف والتخويف، الخاضعة لسلاح الاستقواء الخارج عن الشرعية، ضالتها في شيطنة الثورة وصهينتها من باب تجرؤ البعض المطالبة تطبيق القرار 1559. بعض الإعلام أشار لهؤلاء بالاسم لأنهم بعملتهم تلك فضحوا المضمر في جمهورية التكاذب فعلّقوا عليهم شماعة تهديد السلم الاهلي وإيقاظ الفتنة. ما دعا كثرا للتردد أو التراجع معلنين براءتهم من "الجريمة".
لكن الملفت أن من "أيقظ الفتنة" كانوا صبية حملة السلاح أنفسهم. وهي الممارسات التي بدأت مع انطلاقة الثورة؛ وتستعاد عند كل محطة سياسية لا تتماشى مع أجندات أصحاب السلاح. وهو ما يؤكد أن المشكلة تكمن في حصرية استخدام السلاح ضد الداخل وبعيدا عن الحدود.
الجديد أن "الانتصار الإلهي" الذي ظل البعض مقتنعا أنه انتصار لكل لبنان، وأن السلاح يحمي جميع اللبنانيين تحول إلى مجرد فزاعة بيد زعران يستخدمون شعار "شيعة، شيعة، شيعة" كوسيلة ابتزاز واستفزاز لسكان عين الرمانة رغم زعم أن تفاهم مار مخايل "يحمي المسيحيين"! وللتهجم على السيدة عائشة ما حفّز الأزهر على إصدار بيان استنكار؛ فنسف الحزب تاريخه وحوّل نفسه من بطل التحرير في العالم العربي إلى مجرد تنظيم مذهبي يحمي خارجين عن القانون.
وبدل القبض على هؤلاء المخلين بالأمن والمعروفين بالوجوه والأسماء، صار المطلوب ملاحقة المطالبين بسيادة القانون وتطبيق القرارات الدولية؛ في الوقت الذي يطلب رئيس الدولة رسميا التمديد لقوات اليونيفيل لمراقبة تنفيذ القرار الدولي 1701، الذي يطالب بوضوح تنفيذ القرار 1559 الصادر منذ العام 2004! وهو نفسه القرار الذي افتخر بأبوته رئيس الجمهورية! فأصبحت المطالبة به تهمة وخيانة. ويصل "التشاطر" حد المطالبة بتطبيق انتقائي ومجتزأ للقرارات الدولية! لأن الأمم المتحدة وجدت لخدمة سياسيينا ومصالحهم!
حولوا الإيمان إلى تعصب. فالإيمان هو ميدان الترجيح، بينما يدخل التعصب في دائرة القناعة التامة وامتلاك الحقيقة المطلقة
إن المطالبة بالقرار 1559 ليست سوى نتيجة اعتراف الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصرالله بنفسه إمساكه بخيوط السلطة، عندما استعدى الثورة رافضا أي تغيير في الوضع الحالي يوم طرح لاءاته الثلاث: "لا نقبل بإسقاط العهد ولا نؤيد استقالة الحكومة ولا انتخابات نيابية مبكرة"، و تخوينه للثوار واتهامهم بالعمالة لإسرائيل. الترجمة العملية لهذه اللاءات هي الحفاظ على منظومة الهدر والفساد وحماية حكومة تمارس أقصى هرطقات الإخلال بالقوانين المرعية في التعيينات وغيرها. فكيف يمكن تحييد "حزب الله" وسلاحه عن اهتراء الدولة وانهيارها المريع الذي تفاقم تحديدا مع أول حكومة تابعة له في العام 2011؟
لقد ربط "حزب الله" نفسه بنفسه بالأزمة حين أصرّ على فصل نفسه عن الأزمة الاقتصادية والمالية، بإعلان مصادره أن تهريب سلاحه خارج الموضوع لأنه يمر من معبر وحيد معروف من الجميع! من الذي يحمي إذن معابر تهريب البضائع المدعومة بالعملة الصعبة من جيوب اللبنانيين لإرسالها إلى سوريا؟ ومن الذي يمنع حكومته من إغلاق المعابر الأخرى؟ ومن الذي اعترض على "خنق الشقيقة" اقتصاديا ويريد المزيد من الانفتاح عليها؟ لماذا يمنع الجيش من القيام بدوره المكلف به وهو حماية الحدود؟
ما حصل يوم السبت في السادس من يونيو، والسبت الذي سبقه، أن هناك من تغلب على الخوف وعبّر عن رأي الغالبية الصامتة المغلوبة على أمرها من اللبنانيين. من هنا كان الإعداد المسبق للرد المبرمج بين أركان السلطة بتنسيق مع "الثنائية الشيعية" واستنفار جميع الأجهزة والأدوات بالتنسيق مع أركان السلطة والأحزاب التي تحسب نفسها معارضة وبتواطؤ معظم وسائل الإعلام المحلية.
المؤسف هو تحويل شعار "شيعة، شيعة" إلى فزاعة ونذير شؤم على غرار الإعلان وصول الجراد الذي يلتهم الأخضر واليابس. والمؤسف هو الانحطاط بـ "الشيعية" إلى هذا الدرك وتحويلها إلى أداة للقمع والاعتداء السافرين. بعد أن كانت قوة التشيع تنبع من توجهه المعارض والمتّهِم للقوى الحاكمة وسلطات القرار وفي إخلاصه لتقاليد الصراع ضد الظلم. فالشيعة تاريخيا يعيشون في انتظار عودة الإمام الغائب، فيما هم يناضلون من أجل العدالة على الأرض. حولت إيران وحزبها التشيع إلى أداة تهديد وتسلط.
السؤال ما الذي يدفع الحزب وأدواته إلى هذا السلوك؟ هل لتأكيد فائض القوة أم من الخوف من فقدانها؟ هل للانتقام لمشاعر الاضطهاد التي يحرص على إبقائها حية؟
تتناوب "حزب الله" وجمهوره مشاعر الخوف من الآخرين والاستقواء عليهم، الاستضعاف والتنمّر، لشعورهم بتمدد دائرة الخطر واقترابها في نفس الوقت. من هنا الاستماتة في الاحتفاظ بالسلاح. لذلك يستمر بشحذ بيئته بسردية تجعل من سلاحه (المستورد أو المأجور؟) الرافعة التي أعادت إلى "طائفة المحرومين كرامتها وكافة حقوقها" في الجمهورية المتهالكة!
لقد سيطر "حزب الله" على المجتمع الشيعي عبر الخدمات الزبائنية والثقافة المستوردة وطقوسها التي شوهت الثقافة المحلية الجنوبية وصادرت وعي الجمهور واستتبعته لثقافة إيرانية غريبة. بحيث صار بإمكان بعض محازبيه الاعتراض على "ممارسة الحرية الشخصية" كسباحة شابة أو شرب شاب للبيرة في المنتزهات والأماكن العامة لأنها "تتعارض مع عاداتنا وأعرافنا، خصوصا في هذه الأرض التي وطأتها أقدام المجاهدين وارتوت بدماء الشهداء"!
بماذا يفترقون عن "داعش" إذن؟ ومنذ متى لا يحفظ الدستور الحريات الشخصية على جميع الأراضي اللبنانية؟ فهل تحول الجنوب إلى كانتون مقفل على عاداته المستجدة؟ ولم الاعتراض على الفدرلة إذن؟
هذه التطورات دفعت مروان الأمين، الذي ينتمي إلى إحدى العائلة الشيعية الكبيرة، للكتابة على "فيسبوك":
"1 ـ التنوع والتعددية والاجتهاد في الجنوب عمره مئات السنين، أما أنتم وشموليتكم وأحاديتكم فمستجدون، صدّرت إلينا إيران هذه الثقافة في أوائل الثمانينيات... نحن نشبه هذه الأرض وأنتم دخلاء.
2 ـ مشكلتنا معكم ليست محصورة بسلاحكم، بل في القيم الاجتماعية والثقافية ونمط الحياة. حتى الملبس قمتم بأدلجته سياسيا، ملبس نساءكم ورجالكم هو ملبس الحرس الثوري الإيراني، لا يشبه ملبس أجدادنا وأهل الجنوب المؤمنون.
لن نستسلم ولن نسلّم لكم، سنقاومكم أفرادا وجماعات، بالموسيقى، والرقص، وزجاجة البيرة، والمايوه؛ سنقاومكم... بالألوان، بشَعر نساء الجنوب الجميلات، بشاب وصبية يتواعدان بفرح وبحب في الأماكن العامة، وأمام الجميع سنكسر نمطيتكم.
سنقاومكم بكل تفاصيل الحياة، سلاحكم يقتل الناس، لكن لا يستطيع أن يقتل نمط الحياة.
مستمرون، وسننتصر على ظلاميتكم".
حولوا التشيع إلى أداة تخويف للآخر ووسيلة سيطرة على الجماعة. في النظم التوتاليتارية ينبع الخوف من التهديد بالعقاب أو الموت. لكنه هنا نتج عن الضبط والتنميط والرقابة على العقول وتوحيد تفكير الناس بواسطة تحوير الوقائع والحقائق عبر الإعلام الكاذب ليصبح ما هو افتراضي واقعي ومخيف.
أمام ممارسات السلطة الراهنة سيتفاقم الانهيار وبالتالي سيتصاعد العنف. ليس أمام الثوار سوى استكمال توحيد برامجهم والاعتراف بمكمن المشكلة للتصويب عليها
حولوا الإيمان إلى تعصب. فالإيمان هو ميدان الترجيح، بينما يدخل التعصب في دائرة القناعة التامة وامتلاك الحقيقة المطلقة. المتعصب لا يتساءل لأنه "يعرف" ولأنه "مختار".
المتعصب بحسب فرويد يحارب شعورا بانعدام الأمان، الخوف من الآخر وشعور بالعجز غير المعترف به. المتعصب يضع كل شيء في مكانه دون غموض: خير وشر، صديق وعدو. المدهش أن أشخاصا ذوو مظهر سوي وحتى أنهم قد يملكون بعض الحس السليم في الأوقات العادية، يمكن أن يصبحوا عرضة للهذيان والجنون التعصبي حين نطال الجماعة التي ينتمون إليها أو العقيدة التي يؤمنون بها. وهذا ما يفسر بروز العدوانية غير المفهومة عند شبيبتهم لسماع أي نقد لمعتقداتهم أو لموضوع حبهم؛ مقتنعين بوجوب الدفاع عن طائفتهم أو معتقدهم المقدس.
قد يذهب المتعصب حد القتل كي لا يوضع معتقده موضع الشك.
أمام ممارسات السلطة الراهنة سيتفاقم الانهيار وبالتالي سيتصاعد العنف. ليس أمام الثوار سوى استكمال توحيد برامجهم والاعتراف بمكمن المشكلة للتصويب عليها.
علينا أن نسأل أنفسنا كيف يمكن أن يتجرأ نائب منتخب على المطالبة علنا بقتل المحتجين دون أن يسائله أحد؟ أليس السلاح نفسه الذي جاء به هو الذي يحميه؟
أليس من حق الثوار التظاهر في مدنهم البعيدة عن الخط الأزرق المحمي بقرار 1701 بمأمن من "السلاح المقاوم"؟ أي حدود يحمي سلاح الحزب في بيروت الكبرى؟
حمى الله لبنان وثورته من هؤلاء الخائفين الذين يريدون إخافتنا للسيطرة علينا.