مثيراً كان مشهد السياسيين في 6/6، وهم يجزمون بأنّهم لن يسمحوا باندلاع الفتنة الطائفية والمذهبية في لبنان. أساساً، هل «يمون» هؤلاء على قرارهم، وهل هم الذين يتحكَّمون بقرار الحرب والسلم، سواء على الحدود مع إسرائيل أو مع سوريا أو في الداخل؟ واستطراداً، مَن هُم الأقوياء القادرون على التحكُّم بالأمن اللبناني؟ وهؤلاء، هل تقتضي مصالحهم اليوم إشعال الحرب الأهلية في لبنان أم منعها أو إطفاءها؟

المرجعيات الأمنية والسياسية العليمة لم تُفاجأ بما جرى يوم السبت الفائت. هي كانت تترصَّد تَطوُّر المواقف المعلنة والمستترة التي توحي بالخطر من انفجار أمني، في لحظةٍ بالغة الدقّة محلياً وإقليمياً ودولياً. لذلك، تميَّز سلوك الجيش والقوى الأمنية بالصبر والتأنّي، أكثر من أي يوم مضى، بهدف إعطاء الفرصة لتمرير الأمور بأقلّ ما يمكن من الخسائر.

 

هذه المرجعيات بدت مرتاحة للمواقف «العقلانية» التي أظهرها السياسيون على اختلاف محاورهم، لكن البعض أبدى قلقاً من مستوى الشحن والتوتر الذي اتسم به سلوك المحازبين والمناصرين، والذي أوحى بأنّ المناخ الذي وَضِع فيه هؤلاء في بيئاتهم المغلقة يناقض المناخات التي عبَّرت عنها «الزعامات» علناً.


 
 

فقد اتّضح أنّ هذه «الزعامات» كانت على مدى أشهر تشحن بيئاتها في شكل باطني، لتكون جاهزة للتجييش في اللحظة المناسبة. فالهواجس الطائفية والمذهبية هي الأكثر فاعلية في تحقيق الأهداف.
ولذلك، أوحى يوم السبت الفائت أنّه لم يكن موعداً للانتقال من «الانتفاضة الأولى» إلى «الانتفاضة الثانية»، بل موعداً للانتقال من الانتفاضة إلى الحرب. فالجميع استعدوا للموعد «مدجّجين»، سياسياً على الأقل. وبدا أنّ غالبيتهم استهانت المغامرة بلعبة «الحرب الأهلية»، على الحافة فقط... فلا أحد يريد إحراق نفسه وكل البلد في حرب مدمّرة.

 

ومارس «حزب الله» مع المنادين بنزع سلاحه لعبة «حافة الهاوية». فهو يدرك أنّه الطرف الوحيد القادر فعلاً على خوض حرب، فيما الآخرون يهوِّلون فقط. وقد قام «مناصروه» بإفهام «من يهمّه الأمر» بأنّ «الحزب» قد يستخدم قوته للدفاع عن السلاح، إذا احتاج الأمر، وعلى الآخرين أن يختاروا: يواجهونه أم يتراجعون؟

 

لقد تراجعوا ويتراجعون، منذ ما قبل العام 2005. إنّهم يعرفون أنّ المواجهة لها مقتضياتها، وهي ستقود حتماً إلى حرب أهلية… هذا إذا توافر لهم السلاح والنفوذ داخل مؤسسات الدولة وتغطية القوى الإقليمية النافذة. وليس هناك أي طرف طائفي أو مذهبي أو حزبي مستعد لهذا النوع من المغامرات المدمّرة، أي الحرب الأهلية. ولذلك، لا «الحزب» يتراجع عن مكاسبه والسلاح، ولا خصومه مستعدون للمواجهة.

 

هذه المعادلة تبدو «آمنة» بالمعنى التهكمي. ففي ظلّها، لا خطر لاندلاع حرب أهلية. ولكن، لا مجال إطلاقاً لإقناع «حزب الله» بالتحوّل إلى العمل السياسي والتخلّي عن السلاح وغالبية قرار الدولة ومغادرة ساحات القتال الإقليمية.

 

هل يعني هذا أنّ لا خوف من حربٍ أهلية في هذه المرحلة؟
خبراء الأمن يحذّرون من الانخداع. ويقول أحدهم: «في العام 1975، عندما انفجرت الحرب، كان السياسيون يطرحون عناوين سياسية ولا ينادون بالحرب. وكانوا يطالبون أنصارهم بالتهدئة والتوافق.
لكن هؤلاء لم يكونوا يملكون قرارهم ولا الأرض. وعندما تأتي إليهم التعليمات الخارجية بالتعبئة والانخراط في الحرب، يصبح التنفيذ أمراً واقعاً. وفي مراحل معيَّنة، تدفقت كميات هائلة من السلاح، مصدرها جهات إقليمية ودولية مختلفة، ووفّرت للحرب استمرارها سنوات وسنوات وأمّنت الحمايات للخطوط والمتاريس والمناطق. ولذلك، عندما يتوافق السياسيون اللبنانيون، يعقدون اتفاقاتهم في الخارج، من جنيف ولوزان إلى الطائف والدوحة، لأنّ رعاية التوافق يجب أن تكون للقوى الإقليمية والدولية إيّاها. وحتى تشكيل الحكومات وانتخاب الرؤساء يتمّ برعايات خارجية».


 
 

ويقول الخبير: «عندما تكون القوى السياسية الداخلية مطواعةً لتعليمات القوى الخارجية التي تقضي بالتوافق، تكون أيضاً مطواعةً لتعليماتها التي تقضي بإشعال الحروب. فالوكلاء وكلاء ويتلقون التعليمات بالنزول إلى الساحة كما بالخروج منها. وهنا مكمن الخطر».
هل إنّ مصالح القوى الخارجية يمكن أن تقضي اليوم بإشعال الحرب في لبنان؟ وتالياً، هل على اللبنانيين أن يخافوا لأنّ ظروف اندلاع الحرب الأهلية قائمة حالياً؟

 

تجدر الإشارة أولاً، الى أنّ الحرب مندلعة اليوم في سوريا والعراق واليمن، أي في الحديقة الخلفية للبيت اللبناني، ويشارك فيها أهل هذا البيت بضراوة. ويتمّ ذلك فيما تُنذر النزاعات الدائرة في الشرق الأوسط بولادة خريطة سياسية جديدة.
وليس بالضرورة أن يعني ذلك ولادة كيانات مستقلة، ولكن بالتأكيد، ستنشأ أطُر سياسية أخرى داخل الحدود الحالية، تنسجم خصوصاً مع ما أفرزته حروب سوريا والعراق واليمن، ومع مستتبعات «صفقة القرن».

 

فإذا أعلن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو خطوته - التي أرجأها إلى حين - أي ضمّ الضفة الغربية وغور الأردن، فسيؤدي ذلك إلى خلط أوراق جغرافية وديموغرافية في الإطار الكونفدرالي بين فلسطين والأردن. وهذا ما يبرِّر تحوُّلاتٍ أخرى على مستوى الدول الأخرى في الشرق الأوسط.
في الغالب، يكون الانفجار الطائفي والمذهبي في لبنان تنفيساً مقصوداً أو غير مقصود للاحتقان السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولكن، لا شيء يمنع من أن يكون هذا الانفجار عملاً مدروساً، بل مدسوساً، لتحقيق غايات كبرى.


ولا شيء يضمن أنّ ما جرى يوم السبت كان غيمة صيف عابرة. وإذا كانت تطمينات الحكومة في مسألة الأمن كتطميناتها في مسألة الليرة، فربما «لا داعي للقلق».