إنّ قراءة كتابٍ كبيرٍ في الفلسفة ككتاب ( نقد العقل المحض )، للفيلسوف الألمانيِّ عمّانوئيل كنط، من أوَّله إلى آخره، (وهو بالمناسبة كتابٌ يشكِّل محطّةً أساسيّةً لا غنًى عنها لقارىء الفلسفة، وهو كتابٌ ضخمٌ تتطلَّبُ قراءتُه سنواتٍ)، أقول إنّ قراءة هذا الكتاب لا تزوِّدُنا بمعطياتٍ جديدةٍ، بمعلوماتٍ جديدةٍ لا نعلمها، أو بالأحرى إنَّ هذا الجانبَ جانبٌ ضعيفٌ وهامشيٌّ ولا علاقة له بالفلسفة. فما هو علميٌّ يبقى بدائيًّا في النّص الفلسفيّ مهما كان هذا النّص عظيمًا لأنّه ليس نصًّا في العلم، بل يبقى نصًّا في الفلسفة.
إنَّ قراءةَ كتابٍ في الفلسفة تُعيد تركيبَ ذهننا من جديدٍ، تُعيد تنظيمَ عقلنا من جديد، وتجعلنا نفكِّر بطريقةٍ مختلفة. فكلُّ كتابٍ في الفلسفة يفتح لنا حقولًا جديدةً وآفاقًا جديدةً ويطرح مشكلاتٍ جديدةً ويقترح أفاهيمَ جديدة. ومن طبيعة الفلسفة أن لا تُزوِّدنا بقناعاتٍ جديدةٍ (مع أنَّ البعض قد حوّلها إلى عقيدةٍ وأيديولوجيا وخطِّ دفاعٍ عن المذهب!!) ولا بمعطياتٍ نجهلها، بل تُسائلنا عن الطريقة التي بها كوّنا هذه القناعات وتحفر في الأُسس التي تقوم عليها هذه المعطيات وتُطيح بالرَّكائز التي تتأسَّس عليها عقائدنا. لذا، نقول دائمًا، إنَّ طالب الفلسفة المؤدلج الذي يخرج من قسم الفلسفة كما دخل إليه لا يكون قد مرَّ على الفلسفة حتى لو صار بروفسورًا في قسم الفلسفة.
والفلسفةُ طرحٌ لمشكلاتٍ جديدةٍ وإعادة طرحٍ لمشكلاتٍ قديمةٍ، يطرحها العقل بحكم طبيعته بالذات. والإجابة عن هذه المشكلات بأفعالٍ فكريّةٍ، بأفاعيلَ فكريّةٍ خاصّةٍ تُسمّى أفاهيم. ومن المسلّم به أنّ هذه الأفاهيم لا قيمةَ علميَّةً لها.
وعن سؤال: هل نحن نتعلم الفلسفة حقًّا؟ أجيبُ بما يلي:
بدايةً الفلسفةُ لا تُعلَّم. وقد حسم هذه المسألة أكبر فيلسوفٍ عرفته البشريّة، وأعني به كنط. ما يمكن تعلُّمه هو تاريخ الفلسفة، هو طرق التَّفكير التي توصّل إليها الفلاسفة الكبار ، هو تمارين العقل السابقة التي هي إبداعيّةٌ بالضرورة. وإعادةُ تنظيم أو تركيب ذهننا من جديد، تعني بالضّرورة أنّنا بتنا ننظر الى الأمور بطريقةٍ جديدةٍ ومبتكرةٍ. فهي تعني مثلًا، على الصعيد السياسي، أنَّه بات لدينا أفكارٌ جديدةٌ في إعادة طرح المشكلة السياسيّة، وأنّ إمكانيّة المعالجة باتت أسهل وأغنى، وأنَّ أفكارنا متحرِّكةً وليست آراءً ثابتةً وجامدة.
ما أودُّ أن أُشير إليه هو أنّ الفلسفة، بخلاف العلم، ليست معطياتٍ، ليست معلوماتٍ نضيفها الى ما لدينا من معلومات. فالمعلومات والمعطيات تكون عادةً بدائيّةً في القول الفلسفيّ. ما هو جديدٌ ومثيرٌ للانتباه هو طريقة التفكير، هو الطريقة الجديدة في طرح الأمور التي تبقى دائمًا مفيدة. ما زلنا، مثلًا، ننهل من أفلاطون مع أنّ أيَّ تلميذٍ في الخامس أساسي يعرف، في العلم، وبدقةٍ أكبر، أكثر بكثيرٍ ممّا كان يعرفه أفلاطون. لكن، بالمقابل، لا أحدَ يستطيع أن يدَّعيَ أنه يُفكِّر أفضل من أفلاطون. فأفلاطون هو النبتةُ التي أنبتت جميع الفلاسفة، أي الشجرة التي تفرّعت عنها جميع الأغصان، سواءٌ أكان بالتوافق معه والبناء عليه أم بالتعارض معه ومناهضته.
ما تُنتجه الفلسفة هو الأفاهيم، مثلاً أفهوم الكوجيتو عند ديكارت أو الأنا أفكر (أُفكِّر فإنِّي أو أُفكِّر فأَنْوَجِد). هذا الأفهوم هو فعلٌ فكريٌّ محضٌ، بمعنى أنّه ليس بقضيّةٍ علميّةٍ ولا قضيةٍ منطقيّةٍ، يمكن أن نحكم عليها بالصواب أو بالخطأ. هي طريقة ديكارت في التأسيس لتوجُّهٍ جديدٍ في الفلسفة يبحث عن اليقين، لفلسفةٍ مازالت تؤمن بقدرة الانسان على تحصيل اليقين القاطع انطلاقًا من ذاته، ومن دون أن يستعين لا بالكتاب المقدس ولا بما يقوله العلم ولا بما يأتينا عن طريق الحواس.
لكنّ ديكارت، كما هو معروفٌ في تاريخ الفلسفة، عاد واستعان بالله من أجل بلوغ الحقيقة. هذا يعني أنَّه لم يبقَ منسجِمًا بالكامل مع منطلقاتِه الذَّاتيَّة. وهذا ما عابه عليه كنط ومن بعده هوسرل، أي أنّهما أعادا طرح المشكلة الديكارتيّة بطريقةٍ جديدةٍ. والمشكلةُ الديكارتيّةُ تُلخّص بالسؤال التالي: كيف يُمكن لما هو ذاتيٌّ أن يُقوِّم ما هو موضوعيّ؟ أي كيف يمكن لي بالاستناد إلى النّور الطبيعي الفطريّ أن أصل إلى الحقيقة؟
بناءً على ما سبق، نطرح السُّؤال التَّالي: ماذا نستفيد من الفلسفة إذا كانت تتمايز من العلم؟ هل للفلسفة من دور؟
في تقديرنا أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون أن يتفلسف، من دون أن يحاول دائمًا تقديمَ رؤًى جديدةٍ عن الكون والحياة والانسان. إنّه، بطبيعته، يُحاول أن يُجيب عن المشكلات التي يطرحها عقله بحكم طبيعته بالذات. وهذا ما يُحقِّق له نوعًا من الرّاحة ولو كانت موقّتةً . وهذا التفكير عندما يتمُّ عبر الأفاهيم يُسمّى فلسفة. لكن هناك أنواعٌ أخرى من التفكير تتِمُّ في الفنّ وفي العلم عبر أفاعيلَ مختلفةٍ تخص العلم وتخُصُّ الفنّ بحسب الاختصاص. إذًا، الفلسفةُ طريقةٌ معيّنةٌ في التفكير تختلف عمّا نجده في العلم والفنّ. وهي ليست علمًا بالمعنى المتداول ولن تكون علمًا على الإطلاق. لذا، تبقى أهمّيتها حتى لو تقدّمت العلوم وازدهرت الفنون.
وأُضيف: بإمكان الدولة أن تضع خطَّةً وتنتج، في خلال خمس سنوات، ألفَ مهندس. لكنَّه ليس بإمكانها، طيلةَ هذه المدّة، أن تنتج فيلسوفًا كبيرًا واحدًا أو شاعرًا كبيرًا واحدًا. ما بإمكاننا أن نفعله هو فقط أن نهيِّئ الأرض لقدوم الفيلسوف والشَّاعر عسى أن يستطيبا العيش بيننا. والطبيعة التي لا تقفز كما يقول نيتشه، تقفز، لمرّةٍ واحدةٍ، مع الفيلسوف. هذا يعني أنَّ الفلاسفة الكبار نادرون جدًّا.