إنَّه لأمرٌ مؤسِفٌ حقًّا، أن يتحوّل تعليم الفلسفة في لبنان، سواءٌ أكان في الجامعات أم في الثَّانويَّات، إلى نوعٍ من القِصاص يُحكم به على الطُّلاب الذين يُفترض بهم أن يكونوا عشَّاقًا للحكمة. ولولا الامتحانات الرَّسميَّة لَمَا اطَّلع طالبٌ قطّ على كتاب الفلسفة الذي لم يُكتَب بأسلوبٍ شيِّقٍ، كما لم يقدِّمِ الفلسفة بوصفها طرحًا لمشكلاتٍ تعود إلى العقل بما هو كذلك وتمسُّ كلَّ واحدٍ في الصَّميم.
وقد تحوَّل درس الفلسفة إلى مجرَّد تلقينٍ بحيث يكون على الطَّالب أن يحفظَ "الكور" حتى من دون أن يفهم منه شيئًا ليقومَ من ثمَّ ب"استفراغه" على ورقة المسابقة يومَ الامتحان، ومن ثمَّ يعمد فورًا إلى تمزيق الكتاب بعد الانتهاء من الامتحان.
ولسوء الحظ، لم يتسنَّ لي التَّعليم في الثَّانويّات لأطَّلع عن كثبٍ على ما يعانيه الطُّلّاب، فقد بدأت بالتَّعليم مباشرةً في الجامعة من دون أن أُمارس التَّعليم في أيِّ مدرسةٍ من قبل.
وبدلًا من أن يكون الدرس الفلسفيُّ، مهما كان موضوعه حتى لو كان الميتافيزيقا نفسها، نوعًا من المتعة والفرح، فإنَّه تحوَّل إلى كابوسٍ للطُّلّاب والأساتذة على السَّواء.
والفلسفة التي هي طريقةٌ معيَّنةٌ في التَّفكير وطريقةٌ معيَّنةٌ في فنِّ العيش، والتي هي تتوجَّه إلى الجميع بطبيعتها أي إلى الإنسان بما هو إنسانٌ عاقلٌ يطرح مشكلات العقل ويحاول أن يجيبَ عنها بشكلٍ يُرضيه ويؤمِّن له راحته، والتي من شأنِها أن تُدرِّب الطُّلّاب على حرِّيّة التَّفكير وعلى الفكر النَّقديّ، والتي يُفترض بتاريخها أن يُقدَّم للطُّلّاب بوصفه تمارين العقل السَّابقة الجبَّارة، تتحوّل، أي الفلسفة، إلى مقولاتٍ جامدةٍ لا يستفيد منها الطَّالب ولا تُغيِّر شيئًا في طريقة تفكيره ولا في طريقة عيشه ولا في علاقته مع ذاته ومع الآخر ومع الله. وبذلك نُضيِّع فرصةً ثمينةً أمام الطُّلّاب الذين يُحرمون ممَّا يساعدهم على بناء أذهانهم بطريقةٍ نقديَّةٍ وحرَّةٍ، ومن دون وصاية رجال الدين ورجال السِّياسة.
والفلسفة بما هي كذلك، ضرورةٌ للمدينة، ضرورةٌ للاجتماع البشريّ. وعندما تغيب الفلسفة، وهي الآنَ شبه غائبةٍ للأسباب التي ذكرناها أعلاه، وعندما يغيب الفكر النَّقديّ تنتعش الأُصوليَّات وتنتشر وتستحوذ على العقول، فتتحوّل الثَّانويَّات وأقسام الفلسفة في الجامعة إلى حوزاتٍ دينيّة. لذا، لا نتفاجأنّ بإعادة انتشار الأُصوليّات في مجتمعاتنا العربيَّة.
والفلسفة ليست مادَّةً تُضاف إلى بقيَّة الموادّ، بل هي ركيزة بناء المجتمعات. وعندما نفشل في تعليم الفلسفة نفشل في بناء المجتمع فينهار هذا المجتمع ويتقوَّض ولو بعد حين. فسلطة الاستبداد بالتّعاضد مع سلطة رجال الدّين، يناسبها هذا النّوع من الفلسفة التي لا تُوقِظ ذهنًا ولا تُنعِش فكرًا ولا تسعى إلى تغيير طريقة التَّفكير ولا إلى تغيير المجتمع بما يتناسب مع أفكارها المستنيرة.
ومنذ بداية تعليمي في الجامعة حوَّلت الدّرس الفلسفيَّ إلى درس فرحٍ ومتعةٍ، ولم يكن همِّي على الإطلاق أن أقدِّمَ للطُّلّاب معلوماتٍ عن هذا الفيلسوف أو ذاك، بل كان همِّي أن أعرض طبيعة المشكلات الفلسفيَّة التي طرحها الفيلسوف وطريقة طرحه لهذه المشكلات ونوعيّة الإجابات التي أجاب بها. فالأفهوم الفلسفيّ ليس قضيَّةً تُوصف بالصِّدق والكذب، بل هو فعلٌ فكريٌّ محضٌ، يعود إلى الفكر بما هو كذلك. وهو يجسِّد طريقةً معيَّنةً ومختلفةً في التَّفكير. ولم أكن أهتمُّ بالكمِّيّة التي أعطيها بقدر ما كنت أهتمُّ بطريقة عرض المشكلات الفلسفيّة حتى يبدأَ الطُّلَّاب بالتّفكير وإعادة التَّفكير. وأحيانًا كثيرةً كنَّا نقوم بقراءة صفحةٍ أو صفحتيْن من الكور ليُعاقر الطَّالب بنفسه أُمَّهات النُّصوص الفلسفيَّة وطريقة معالجتها. وفي الامتحانات أطرحُ مشكلاتٍ فلسفيَّةً للمعالجة، ولا أطرح إطلاقًا أسئلةً من نوع "تكلَّمْ على...".
من هنا، نأمل بإعادة النّظر في كتاب الفلسفة في الثّانويّات فلا يكون خليطًا من الفلسفة وعلم النَّفس ودراسة الحضارات، بل يكون فلسفةً وحسب. كما نأمل أن تتغيَّر طريقةُ تعليم الفلسفة في الجامعة حتى تأخذ الفلسفة دورها في المجتمع ومكانتها التي تستحقّ. ولا أظنّ أنّ هناك مشكلةً في عقل الطَّالب، بل لعلّ المشكلة تكمن في ذهن الأستاذ وفي كتاب الفلسفة نفسه.