لم يشهد القطاع التربوي في لبنان تخبطاً وإرباكاً كما اليوم. فالمشكلات في ضوء أزمة كورونا كانت كافية لوضع العمل التربوي برمته في نفق مظلم، ومصير العام الدراسي والامتحانات الرسمية في متاهة لم تكف عشرات الاقتراحات والآراء والسيناريوات للخروج منها. متاهة كانت واضحة لعيان اللبنانيين عشية إعلان وزير التربية مقرراته الأخيرة. فالضبابية والتناقض في القرارات، جعلا أهالي التلامذة أمام اقتناع راسخ بأن المدارس الخاصة تفرض شروطها وأجندتها على الوزارة، ووضعا وزير التربية وفريق عمله في خانة الإذعان التام لـ«كارتيل المدارس الخاصة» التي تغلب مصالحها المالية على مصلحة الطلاب وأمنهم الصحي والنفسي، من أجل استيفاء الأقساط المدرسية المتبقية. قرارات الوزير غير العملية، كما يراها أهالي التلامذة وتربويون كثر، إذ لم تكن فيها الأولوية للصحة الجسدية والنفسية للتلامذة، دفعتهم الى التمسك أكثر برأيهم لناحية إنهاء العام الدراسي وإلغاء الامتحانات الرسمية بشهادتيها المتوسطة والثانوية من دون أي شروط وأي ضوابط غير منطقية، والإصرار على المطالبة بالضغط على المدارس الخاصة لتقديم موازناتها المعدلة الى الوزارة، وإيجاد حل عادل ومنصف لموضوع الأقساط المدرسية.
المسوغات التي ينطلق منها الأهالي والمبررات التي يسوقها تربويون وخبراء الصحة لعدم جدوى استئناف العام الدراسي في المدى القريب المنظور، تنبع من تساؤلات كثيرة: هل نستطيع تحقيق «صفر إصابات» والتخلص من الوباء أواخر أيار وبشكل نهائي؟ وإذا ما تم استئناف التعليم، هل لدى المدارس الامكانيات اللوجستية والموارد المادية والمالية والبشرية اللازمة والكافية لتطبيق هذه الخطة؟ ومن سيتولى مراقبة تنفيذها؟ وهل تأخذ الوزارة جدياً، قبل اتخاذ قراراتها، في الاعتبار الظروف العصيبة التي يمر بها البلد على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية؟ وهل يدرك أصحاب القرار التربوي أن التلامذة والمعلمين وأولياء الأمور بلغوا ذروة التأزم النفسي من جرّاء التململ في معالجة الأزمة وعدم اتخاذ القرارات التي يمكن أن تؤسّس لقاعدة من الراحة النفسية للتلامذة وأهاليهم، خصوصاً في ظل ضغوط الخوف من الإصابة بوباء كورونا، وضغوط التعليم عن بعد؟ هل يدرك وزير التربية وفريق عمله أنّ طلاب شهادة الثانوية العامة يعيشون ذروة التوتر النفسي ورهاب الامتحان والضياع من المجهول في ظل انعدام قاعدة أمان تبدّد مخاوفهم؟ وهل تأخذ الوزارة في الاعتبار الأوضاع الصعبة التي مر بها بعض المناطق والتي أفرزت تعثراً تعليمياً في مدارسها لفترة طويلة، في حين أن مدارس في مناطق أخرى كانت تقوم بعملها، بشكل اعتيادي، مع ما لذلك من أثر على تكافؤ فرص التعليم بين تلامذة المناطق المختلفة؟
علاوة على ذلك، كل المؤشرات تؤكد أنّ إجراء الامتحانات الرسمية لشهادة الثانوية العامة ستعترضها مشكلات جمة ولن تكون قادرة على قياس ما ينبغي تقييمه عند المتعلم، ولن تكون قادرة على تحقيق الشروط الأساسية لنجاح عملية التقييم الصحيح لناحية الموضوعية والعدالة والمصداقية والمساواة، كما أن القرارات المتعلقة بإلزامية مواد معينة واختيار مواد أخرى، ستترك نتائج سلبية على تحصيل المتعلمين الذين يعتمدون على مواد دون أخرى لتحسين معدل تحصيلهم الكلي من جهة، وسيسهم في عدم مراعاة الذكاءات المتعددة لدى المتعلمين خلال عملية التقييم. والأخطر من هذا، أن قرار الإلزام والاختيار بين المواد قد ينسحب على السنوات التالية، إذا ما استحسن البعض التجربة بناءً على مقاربات غير علمية، ما يتسبّب في خسارة الشهادة الرسمية لقيمتها.
صحيح ان الرأي قبل شجاعة الشجعان، وأن الإقدام على اتخاذ القرارات المصيرية يقارب بحكمة ويتطلب بصيرة وروية ومشورة بعيداً عن المظاهر الشعبوية، ولكن هذا لا يعني أن نعيش ترف الانتظار. فالمرحلة لا تتحمل السير أكثر في متاهة القرار، وهي تحتاج إلى تكافل وطني واجتماعي وتربوي، يزيل جزءاً من الألم الذي يرزح تحت وطأته المواطنون.