قبل إجراء اي مقاربة تتناول اللقاء الوطني الذي دعا اليه رئيس الجمهورية في قصر بعبدا غداً لشرح الخطة الاقتصادية الحكومية، يُفترض التطلّع الى ردّات الفعل الدولية. ففي ظلّ فقدان المخارج الداخلية، يجب البحث عن الدعم الخارجي، وفق آلية واضحة في مخاطبة صندوق النقد الدولي ومصادرالتمويل الغربية والعربية. فهل هي على استعداد لتفهّم مطالب لبنان، وما هي شروطها للتجاوب؟
رغم كل المواقف العقائدية والمبدئية التي حذّرت من التعاطي مع المؤسسات الدولية المانحة، فقد انطلقت منذ الاسبوع الماضي الاتصالات، عقب طلب رئيس الحكومة حسان دياب ووزير المال غازي وزنة الدعم الرسمي من صندوق النقد الدولي، في وقت تزامن هذا الطلب مع حملة ديبلوماسية قامت بها المراجع المعنية، بغية تسويق الخطة الاقتصادية في الأندية الاممية والدولية بمختلف جوانبها الإدارية والمالية والتقنية، استدراجاً للدعم الدولي.
فقد بات واضحاً امام كل المتعاطين بالأزمة الحالية، انّ صندوق النقد تحوّل المعبر الإجباري والوحيد لتوفير مقومات الصمود والمواجهة، امام حجم الأزمة المالية والنقدية التي تعيشها البلاد. فقد سدّت السياسات التي قادتها السلطة منذ ثلاث سنوات ونصف سنة كل المنافذ الى مصادر التمويل العربية والغربية بآليات كانت معتمدة قبلاً. وزاد في الطين بلّة، ما بلغته الأزمة الكونية الناجمة عن جائحة «كورونا»، والتي تسبّبت بمجموعة أزمات تعانيها الدول الكبرى وصناديق المال العربية والغربية الاستثمارية، واستنفدت موازناتها السنوية، واضطرت للجوء الى المخزونات الاحتياطية من النقد لمواجهة آثارها المدمّرة، والتي زاد من حجمها الى الذروة، ما عكسه وقف التجارة الخارجية وحاجات المجتمعات المحجورة التي تضاءلت الى الحدود الدنيا، من المشتقات النفطية والكماليات، وتعطّل العمل في الشركات العملاقة، التي انهارت امام موجة الإقفال الطوعي نتيجة خطط التباعد الاجتماعي واقفال الحدود بين الدول، وتعطّل قطاعات الإنتاج، ما عدا تلك المتصلة بالجائحة ووسائل المواجهة الضرورية بوجوهها المختلفة.
والى هذه المعطيات التي لم تعد موضوع نقاش في ظلّ الاعتراف بحجم الكارثة التي تعيشها البلاد وما آلت اليه اوضاع الدولة وخزينتها، كان لا بدّ من ان تتوجّه الأنظار الى ردّات الفعل الدولية والإقليمية التي سُجّلت حتى الآن، وتلك المرتقبة، إزاء الخطة التي اقرّتها الحكومة واحتفلت بها السلطة على انّها «خطوة تاريخية». وعليه لا بدّ من الإقرار من دون مكابرة، انّ العالم الذي يرصد الوضع في لبنان لحظة بلحظة، لا يحتاج الى من يسوّق له أمراً غير متوافر حتى اليوم، وليس هناك اي سرّ مخفي عليه في لبنان، في وقت تفتّحت العيون الدولية على كل شاردة وواردة، وهو ما لم تتمكن من القيام به قوى لبنانية داخلية تعيش في زمن آخر.
ليس في هذه النتيجة ما يدعو الى الإستغراب، فهي الحصيلة الطبيعية للقراءة الموضوعية لردّات الفعل الدولية الأولى على الخطة، وخصوصاً تلك التي عبّرت عنها وزارة الخارجية الفرنسية وتصريحات مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، في وقت سجّل ممثل الأمين العام للامم المتحدة في لبنان يان كوبيتش، في مجموعة تغريدات، ملاحظاته القاسية والواضحة التي ابلغها الى جميع من التقاهم إثر اعلان الخطة، وهو الذي شجّع اكثر من اي طرف لبناني آخر اهل الحكم والحكومة على المضي في خططهم، الكاشفة عن حقيقة الأوضاع الصعبة وعدم التغاضي عن الأخطاء الكبرى المرتكبة، والتعاطي مع المجتمع الدولي وفق الآليات المعتمدة في مثل هذه الأزمات الكبرى، وطلب المساعدة بصدق وشفافية.
على هذه الخلفيات يتحدث الديبلوماسيون الغربيون في صالوناتهم عن حجم المكابرة اللبنانية، وعدم اعتراف اهل الحكم بكثير من الحقائق التي قادتهم الى المأزق الكبير. ونُقل عن احدهم تأكيده في جولته الأخيرة على المسؤولين الكبار، انّه لا يمكن التغاضي عن الأخطاء المرتكبة على فظاعتها، واللجوء الى وسائل جديدة في التعاطي مع الأزمات. فالحراك الشعبي لم يكن موحى به من الخارج بمقدار ما بات تعبيراً عن حجم القهر الذي يعانيه اللبنانيون، الذين كفروا بالسياسات المعتمدة التي لم تلحظ كثيراً من الحقائق، وقادت الى ما هو فيه بلدهم من مأزق. ولفت الى انّ المواربة في التعاطي مع المجتمع الدولي لم تعد مقبولة على الإطلاق.
واضاف هذا الديبلوماسي، الذي يتواصل مع اكبر مجموعة من اللبنانيين: «انّ التمادي في تبادل الاتهامات الداخلية وتعميم سياسة المكائد لم تعد مفيدة، وانّ التنازلات مطلوبة من الجميع قبل فوات الأوان». لافتاً الى انّه «على رغم من حجم الأزمة الدولية الناجمة عن ازمة «الكورونا»، فإنّ القرار بمساعدة لبنان، ان وجدت له الأرضية الصالحة من الإصلاحات المنتظرة منذ سنوات عدة، لن تمنع ظروف اخرى من تنفيذه»، داعماً قوله بعرض بسيط للمساعدات الإجتماعية التي وفرتها بلاده لمواطنيها في شهرين من أزمة «الكورونا» التي ربما تنعش اقتصاد اللبنانيين وحياتهم لعقود مقبلة.
وأضاف الديبلوماسي: «انّ موازنتكم في لبنان لا تساوي موازنة شركة طيران او شركة لانتاج السيارات أو الأدوية في أي دولة من دول العالم، التي اجتمعت في اكثر من مناسبة على دعم لبنان، متى استقامت فيه السياسات اللبنانية، ومتى نأت بالبلد الصغير عن احداث المنطقة، والتي لا يمكنكم تحمّل تبعاتها، وهو ما ساهم في هذا الحصار المالي والسياسي والديبلوماسي الذي تعانون منه قبل «الكورونا» وبعدها، وربما بقي هذا الأمر الى أمد بعيد ما لم تقدّموا نموذجاً من الإصلاحات المطلوبة في قطاع الكهرباء والطاقة، واطلاق المحاولات الجدّية لاستعادة التوازن في الميزان التجاري ومعالجة العجز الحاصل نتيجة التهريب والتهرّب الضريبي واستخدام الآليات المصرفية لتبييض الأموال واعادة التوازن المفقود الى الدورة الاقتصادية في البلاد».
وينتهي الديبلوماسي الغربي الى التعبير عن خيبة الأمل ولو بلغة ديبلوماسية، مشيراً الى «أنّ التفهّم الذي يبديه اهل الحكم لبعض النصائح يبدو موسمياً بدلاً من ان يكون اسلوب عمل منتج وصادق ومستدام. فالبلاد انساقت الى موجة المزايدات الأخيرة في كثير من الملفات الحيوية، وليس هناك ما يشير الى وجود نيّة لإجراء التغييرات المطلوبة، ولذلك ستبقى المناكفات قائمة الى امد غير منظور. وهو ما سيؤدي الى استمرار الاهمال الدولي والإقليمي. فلا تبرّروا العجز في معالجة الأزمات الإقتصادية بما يُحكى عن مثيلات عالمية. فالثقة التي وفّرتها الجنة الضريبية في لبنان عقب أزمة 2008 الدولية، وجاءت بالمليارات من الدولارات الى لبنان ومصارفه، هي نفسها الثقة المفقودة التي شجّعت على هروبها على يد لبنانيين وعرب واجانب. وان لم تتعظوا من هذه النتائج الملموسة فإنّ الآتي اعظم».