مهما كانت الإحصاءات عن أعداد الضحايا في إيران بسبب وباء كورونا، فالحقيقة هي أن هذا ليس هو الوباء الأشد فتكا هناك.
التقديرات الرسمية تشير إلى نحو 5 آلاف من الضحايا، بين عدد من المصابين يبلغ نحو 83 ألفا. أما التقديرات الأكثر واقعية فإنها تشير إلى ما يتراوح بين 5 إلى 10 أضعاف هذا الرقم. لاسيما وأن السلطات تتعمد تسجيل الوفيات بكل الأمراض الأخرى التي يتسبب بها الوباء، وليس باسم الوباء نفسه. وهذه حيلة من الحيل المألوفة في تجارة الجهل التي يمارسها رجال الدين في إيران. والإيرانيون الذين يرون مستشفياتهم تنهار، يدركون أنها كذلك. وهم يتعايشون معها لأنهم، بالأحرى يعانون من وباء أشد فتكا بكثير من كورونا. فهم يرون كيف يتجرعون السم الزؤام الذي يصيب البلاد بأسرها، حتى هانت عليهم مصائب وباء لا يؤذي إلا أقل من 20 في المئة من الناس.
الوباء الحقيقي هو النظام الديني نفسه. وقد بلغ الشعور بخطورته حدا دفع الملايين من الإيرانيين إلى المطالبة بإسقاطه، حتى وهم يجازفون بحياتهم لمجرد الخروج في تظاهرات. وهذا ما حصل بالفعل، إذ قُتل الآلاف، واعتقل عشرات الآلاف، وأعدم عدد كبير منهم بصمت وبتهم شتى لا علاقة لها بالسبب الأصلي لاعتقالهم.
هذا النظام، الذي أُرسيت أسسه الأولى على يد إسماعيل شاه الصفوي، وفقا لمنهج طائفي كذوب ومتطرف، تمكن من خلال حشد من المجازر والأعمال الوحشية، من توحيد المقاطعات الإيرانية التي لم تكن خاضعة بعد للهيمنة الفارسية. وكان فرض المذهب الشيعي، بموجب سلسلة لا نهاية لها من الأكاذيب المضمخة بالحقد، هو الحيلة الأولى لتكريس تلك الهيمنة. وبالقهر والقوة وأعمال القتل الجماعي، أصبحت إيران ما نعرفه الآن، جغرافيا وطائفيا. لا شيء سوى ذلك. لا لغة ولا ثقافة ولا دين. القتل فقط كان هو القوة المؤسسة لهذه الإيران.
هذا هو الأساس. وهو أساس حقود، دموي، متعفن، شديد الميل إلى المراوغة والجمع بين الدجل والمَسْكَنة، حتى أصبح الأمر معيارا ثقافيا وطيدا في مجتمع الجهل الذي آمن بالعمامة.
الأصل في الحقد كان ضد الإسلام نفسه، حتى ولو اتخذ من الكراهية ضد العرب ستارا له. وكانت تلك، في الواقع، مصيبة مزدوجة، لم يعرف العرب كيف يتعاملون معها. فمن ناحية يزعم طائفيو الصفوية أنهم مسلمون، ولكنهم يحتقرون الإسلام، ويزورون تاريخه، ويبتدعون فيه ما ليس منه، ويكرهون الذين حملوا رسالته. ومن ناحية أخرى، فإنهم عندما يضعفون، يتحدثون بلسان عذب، وعندما يشتد عودهم يعودون إلى قطع الرقاب. وأصبح ذلك معيارا منهجيا يُدعى “التقيّة”.
مضت الأيام لتتقلب إيران بين إمبراطورية وأخرى، ولكن جمر الحقد ظل يتقد. تدعمه ثقافة تتخذ من الطائفية عمادا لها، وتستند إلى منظومة أباطيل تترسخ جيلا بعد جيل، وتحاط بالمزيد من الدجل حتى لم يعد بوسع المجتمع دحضها. ولقد ولدت “الجمهورية الإسلامية” عام 1979، لتجسد مساوئ الزيف، وتدلق الحقد على العرب، وتنفث السم ضد الإسلام، وهي آخر ما يستطيع الزعم أنه “جمهورية” وآخر ما يدين بالإسلام. حتى شهادة “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، لا تقال هناك إلا مع زيف يُضيف إليها ما لم يقل به رسول الله.
“الجهل المقدس” تعبير أطلقه أحد نواب البرلمان الإيراني (أحمد مازني) للتنديد بثقافة “لطع” الأضرحة والتبرك بشبابيكها وأبوابها، بينما كان كورونا يتحول إلى وباء ساحق.
والحقيقة، فإن “الجهل المقدس” هو نتيجة طبيعية للوباء الأصلي. إنه فقط ظاهرة اجتماعية لا مفر منها عندما يتحول التزييف الطائفي وتزوير التاريخ والانحراف بالدين، إلى دين آخر لا علاقة له بالإسلام من الأساس.
الجانب البراغماتي وحده هو الذي أقنع “الولي الفقيه” بقبول إغلاق تلك الأضرحة. ففي النهاية هو يريد شعبا يحكمه. وليس من المناسب أن يتسبب “جهله المقدس” بموت الملايين من الإيرانيين، لمجرد أنهم يتبعون إرشاداته الروحية للتبرك بالوباء. وكانت تلك مفارقة عجيبة بالنسبة لذلك الدين الذي يتعبد رفاة الأضرحة، ويتخذها وسيطا وزلفى، كما يفعل عبدة الأصنام. إلا أنها ظلت مفارقة، ولم تتطلب فقها للنظر فيها.
انظر في الإحصاءات الأخرى، لتعرف كم كان الوباء الأصلي سببا للدمار الشامل الذي تعيش إيران اليوم نتائجه.
أول نفثة السموم انطلقت نحو العراق لتُشنَّ ضده حربا انتهت بمقتل أكثر من مليون إيراني. اندفعت ثقافة “الجهل المقدس” لتفتح حقول الألغام على الحدود بين البلدين بموجات من البشر الذين يحمل كل منهم مفتاحا ليدخل به الجنة، وذلك على غرار أقذر ممارسات الكنيسة المسيحية التي منحت الرعاع مفاتيح الجنة للمشاركة في الحروب الصليبية.
لم تكن الحرب حربا مثل باقي حروب خلق الله. كانت مجرد مجزرة، دافعها الوحيد هو الحقد. وفي معسكراتها تَربّى كل الذين جاؤوا بعد غزو العراق من ميليشيات وجماعات ليكملوا ما بدأ به وليّهم الأول. جاؤوا يحملون الكراهية للعراق، ويزعمون في الوقت نفسه، أنهم “عراقيون”. وذلك مثلما يزعم أصحاب الفيل الصفوي أنهم “مسلمون”. فأفسدوا ودمروا ونهبوا وقتلوا وشردوا واعتقلوا وأعدموا، حتى شملت حصيلة المشروع الطائفي ما لا يقل عن دمار ثلثي البلاد وتشريد خمسة ملايين نسمة ومقتل مليون نسمة على الأقل.
أحص ما جنته إيران نفسها من عواقب هذا المشروع. ستجد دولة منهارة على كل وجه، واقتصادا متداعيا، وميليشيات حولت مؤسسة الدولة إلى مجرد ظل بليد، لا يملك من أمره شيئا. والفقر والبطالة والمخدرات تنهش الجسد الاجتماعي كما لا يمكن لأي وباء أن يفعل.
المشروع نفسه تمدد لكي يلقي بظلاله الهمجية، أحقاده، أباطيله، وتقيته، على أكثر من بلد في الجوار. وامتدت ثقافة الحقد لكي تورث المجتمع السوري ما لا يقل عن نصف مليون قتيل، وأكثر من 10 ملايين مشرد. دع عنك لبنان، ودع عنك انقلاب الحوثي في اليمن.
مسكين كورونا، كم ألقيت على عاتقه من أعباء، خطير، أعمى. ولكنه ليس أخطر من الوباء الذي جوّع إيران ودمر العراق وأحرق اليمن وأفلس لبنان.
المشروع الطائفي هو ذلك الوباء. والولي الفقيه هو بيت الداء، وعصابات الحرس الثوري هي فايروساته.
وقد يمكن العثور على لقاح لكورونا. ولكن لا يوجد مختبر واحد في العالم يمكنه أن ينتج لقاحا ضد الوباء الطائفي.
يكفي أن تنظر إلى ما حل بالعراق على امتداد 17 عاما من هيمنة المشروع الصفوي، وسترى بوضوح أنه وباء وبلاء ما أصيب به شعب على وجه الكرة الأرضية. وهو وباء قديم أيضا، بقدم الطاعون نفسه.
شيء واحد ظل يحيرني، ولم أجد له تفسيرا: بعد أن توحدت إيران على يد إسماعيلها الصفوي ذاك، لماذا لم تتجه شرقا أو شمالا، لتنشر دينها هناك؟ وبعد أن أنجزت العصور ما أنجزت من تغييرات وإعادة رسم خرائط، لماذا ظلت أعين أصحاب هذا المشروع تتجه إلينا نحن، بينما يوجد عالم فسيح يمكن الذهاب إليه؟ بعبارة أفصح: لماذا لم يحلوا عن ربنا وسمانا؟
وتتملكني قناعة لا أعرف كيف أتغلب على سؤالها الممض: هل أخطأنا عندما قمنا بنشر رسالة الإسلام في إيران، لكي ينقلب الأمر وبالا علينا وعلى الإسلام؟ ألم يكن من الأنسب لنا أن يبقوا يعبدون النار؟