لم يعد سرّا أن مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي المكلّف، يواجه صعوبة في تشكيل حكومة تكون في مستوى المرحلة التي يمرّ فيها العراق والمنطقة والعالم كلّه. هناك أحزاب عراقية تريد تناتش ما بقي من العراق رافضة أن تأخذ علما بأنّ البلد الغني جفّ ضرعه بعد عملية نهب منظّمة منذ العام 2003، سبقتها مغامرات لنظام لم يدرك معنى مغامرة من نوع احتلال الكويت، ثم السقوط طويلا تحت نظام العقوبات الدولية…
لا حاجة إلى تأكيد كم كان العراق مهمّا بالنسبة إلى تحديد مستقبل المنطقة إنْ بسبب ما يمتلكه من ثروات متنوّعة، أو بسبب موقعه الاستراتيجي. كان كافيا سقوط العراق تحت الاحتلال الأميركي في 2003 وسقوط الحدود بينه وبين إيران كي يسقط النظام الإقليمي دفعة واحدة. قام هذا النظام الإقليمي على أنقاض الدولة العثمانية في عشرينات القرن الماضي. كان العراق أحد أعمدة هذا النظام الإقليمي الذي انهار بمجرّد إزالة أميركا الحدود بين العراق وإيران، وتسليم بغداد على صحن من فضّة إلى طهران.
يختزل العجز عن إقامة نظام جديد يتمتع بمؤسسات صلبة سلسلة التحديات التي تواجه الكاظمي في مواجهة وحوش السلطة والمال. فوق ذلك كلّه، عليه أن يأخذ في الاعتبار حاجة إيران، التي استثمرت إلى أبعد حدود في العراق، إلى ورقة الإمساك بأيّ حكومة تُشكّل في بغداد بغية المحافظة على قدرة التفاوض مع الإدارة الأميركية في مرحلة معيّنة.
في حال كان مطلوبا إنقاذ العراق، سيتوجب على الأحزاب العراقية، خصوصا الأحزاب الشيعية، القيام بنقلة نوعية والتفكير في مستقبل البلد وما إذا كان يمكن الفصل بين مصالحه ومصالح النظام في إيران. هل مثل هذا الفصل وارد أم أنّه بمثابة مهمّة مستحيلة في وقت تفكّر الإدارة الأميركية الحالية في الانتقال إلى مرحلة تنظّم فيها مستقبل العلاقات بين واشنطن وبغداد.
من بين ما هو متداول في واشنطن أنّ الإدارة الأميركية تفكّر في التفاوض مع العراق في ما يخص مستقبل الوجود الأميركي، بما في ذلك الوجود العسكري، في هذا البلد. أكثر من ذلك، تريد الإدارة البحث جدّيا في مستقبل الجيش العراقي، وهل سيكون هو القوة المسلّحة الوحيدة في العراق، أم أنّ “الحشد الشعبي” سيظلّ قوة رديفة، بل القوّة الحقيقية، على غرار “الحرس الثوري” في إيران.
هناك ما هو أبعد من تشكيل حكومة عراقية جديدة برئاسة شخص، يبدو حريصا، من خلال الأسماء التي رشّحها، على تشكيل فريق عمل مختلف بعيدا عن المحاصصات الطائفية والمذهبية. هل تحوّل مصطفى الكاظمي إلى شخص يحلم معتقدا أن العراق صار في مكان آخر وأنّ الأحزاب العراقيّة تغيّرت… بمعنى أنّها تغيّرت من الداخل، كما تغيّرت طبيعة ارتباطها بـ”الجمهورية الإسلامية” التي أنشأها آية الله الخميني؟
في النهاية، إن مستقبل النظام الإيراني مرتبط بالعراق. من هذا المنطلق، سيكون صعبا إيجاد أي هامش بين الحكومة العراقية وطهران، على الرغم من أنّ العراق لم يعد لديه ما يقدّمه لإيران. ولكن ما العمل عندما لم يعد أمام إيران غير رهان واحد هو رهان سقوط دونالد ترامب أمام جو بايدن في الانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني – نوفمبر المقبل.
حسنا، سقط ترامب ولكن ماذا عن مستقبل العراق؟ هذا ما يستعصي على “الجمهورية الإسلامية” فهمه. لم يعد الوجود الإيراني في العراق يقدّم أو يؤخر في عالم ما بعد هبوط سعر النفط. العراق دولة مفلسة لم يعد فيها ما يمكن نهبه. فوق ذلك، إنّ عدد سكان العراق بات نحو 35 مليون نسمة. البلد لا يمتلك أيّ بنية تحتية بعدما تبخرت مليارات الدولارات بين 2003 و2020 في ظلّ هيمنة نظام جديد هجين لا علاقة له من قريب أو بعيد ببناء الدول الحديثة. لا ماء صالحا للشرب أو كهرباء في العراق، ولا وجود لنظام صحّي لائق، كما لا وجود لأيّ مستوى تعليمي في بلد كان منارة للمنطقة كلّها.
هذا غيض من فيض مما يعاني منه العراق حيث تضخّم القطاع العام إلى درجة يصعب على أي موازنة تحمّلها. فكيف بعد تبخّر كل هذه المليارات وبعد تبخّر سعر برميل النفط؟
في حال تمكن مصطفى الكاظمي من تشكيل حكومة، وهذا احتمال يتضاءل يوما بعد يوم في غياب رجال الدولة بين القيادات السياسية العراقية، ستكون هذه فرصة أخيرة للعراق. ستكون الحكومة الجديدة فرصة كي يلتقط البلد أنفاسه في منطقة تغيّرت كلّيا، وفي عالم تغيّرت فيه كل المفاهيم. تغيّرت المنطقة في ضوء هبوط سعر النفط والغاز وليس هناك ما يشير إلى أنّ هذا السعر سيعود إلى الارتفاع قريبا. أمّا العالم، فهو عالم آخر في عصر ما بعد كورونا. أميركا ما بعد كورونا ليست كأميركا ما قبل كورونا فاز ترامب أو انهزم أمام بايدن.
لا شكّ أن أميركا ستكون قادرة في كلّ وقت على الاستثمار مجددا في العراق. لكن طبيعة استثمارها وعلاقتها الجديدة التي تربطها اتفاقات ومعاهدات مع العراق ستعتمد على عاملين. الأوّل مستقبل النظام الإيراني الذي لن يكون قادرا على الصمود في ظلّ انهيار سعر برميل النفط والعقوبات الأميركية. أمّا العامل الآخر، فهو العراق نفسه الذي يصعب أن تحصل فيه صحوة حقيقية على الرغم من الحراك الشعبي الذي بدأ في تشرين الأوّل – أكتوبر 2019، والذي كشف أن العراق هو العراق، وأن إيران هي إيران… وأنه من الصعب أن يكون شيعة العراق العرب تابعين لإيران.
يبقى تمكّن مصطفى الكاظمي من تشكيل حكومة عراقية أمرا مهمّا بالنسبة إلى العراق، لكنّ كلّ يوم يمرّ يكشف غياب الأفق السياسي في طهران حيث نظام يعتقد أن مشروعه التوسّعي لا يزال حيّا يرزق، وأن في الإمكان استخدام العراق ورقة في الضغط على أميركا. إنّه نظام غير قابل للحياة في المدى الطويل، نظام لا يدرك أنّ إطلاق قمر اصطناعي لا يعني شيئا ما دام أكثر من نصف شعبه دون خط الفقر. مثل هذا التفكير الأعوج ينطبق أيضا على العلاقة بالعراق الذي تزداد مشاكله وتعقيداته يوما بعد يوم. فالعراق لم يعد ورقة، بمقدار ما صار عبئا بعد كلّ الذي حصل منذ العام 2003. إن تاريخ العراق في السنوات الـ17 الأخيرة هو سلسلة من الإحباطات، ولا شيء آخر غير ذلك. هل يستطيع مصطفى الكاظمي جعل الإحباطات تتحوّل إلى نجاح؟ يحتاج الرجل إلى معجزة في عالم لم يعد فيه من يؤمن بالمعجزات سوى السذّج!