أمّا الفيلسوف الذي بلغ بالشكّ العلميّ أقصى الحدود حتّى أضحى الشكُّ مرادفًا الدحضَ والإبطال البرهانيّ، فهو النمساويّ كارل بوبِّر (1902-1994) الذي كان يعتقد أنّ الحقيقة مقترنةٌ بالاختبارات العلميّة، وأنّ الاختبارات العلميّة لا تنشط في الفراغ، بل بالاستناد إلى النظريّات التي تتقدّم عليها، وأنّ النظريّات تأتي من المعتمدات المأثورة المتواترة ومن التصوّرات الأونطولوجيّة التي منها تنبثق النظريّات، وقد تكون هذه التصوّرات مِتافيزيائيّة، وهي في طور التحوّل إلى المرتبة العلميّة. بناءً على هذه الخلاصات العلميّة، أنشأ بوبِّر نظريّته في الدحض والترسيخ. يقوم الدحض على استجلاب حالات فرديّة تعاند منطوق النظريّة، فيما الترسيخ يستلزم تعزيز عصمة النظريّة العلميّة. في يقينه أنّه كلّما تعاظمت مقاديرُ التعزيز والترسيخ والتوطيد النظريّ في نظريةٍ من النظريّات، امتنعت النظريّة عن اختبار بعض الحالات الطارئة المستحدثة، فضعفت ووهنت وتضاءلت رقعة احتماليّتها، لا بل إنّ ترسيخ عصمة النظريّة يمنع العلم من معاينة ظواهر جديدة لم يألفها الوعي العلميّ. لذلك ينبغي أن تظلّ النظريّة العلميّة قابلةً الدحض والإنكار حتّى تصون خصوبتها الاستكشافيّة وطاقتها الفتْحيّة.
من الواضح أنّ هذه الامتناعات التي تعيق العلماء عن معاينة مستحدثات واقعيّة جديدة لا تخضع لأحكام النظريّة المعتمدة المرسّخة إنّما تجعل هذه النظريّة معرَّضةً للطعن والبطلان والسقوط. لذلك كلّما كانت النظريّة العلميّة قابلةً التشكيك والدحض والإبطال الجزئيّ أو الكلّيّ، اتّسعت رقعة الانبثاقات الجديدة التي تطرأ على الوقائع، ممّا يتيح للأشياء أن تظهر في هيئات جديدة أو أن تُختبر في صوَر مستحدثة. ومن ثمّ، فإنّ الدحضيّات تغدو هي مصنع اليقينيّات العابرة أو العبوريّة أو الموقّتة.من المفارقة العجيبة أنّ ترسيخ حقيقة الاختبار العلميّ يمنع إمكان دحض بعض العناصر التي قد تنطوي عليها النظريّة من غير أن يكون الناظر قد سبق فعاينها. لذلك كان حظرُ الدحض إهلاكًا للنظريّة العلميّة. بمعنى أبسط، كلّما استطاع العلماء دحض نظريّاتهم، أثمرت هذه النظريّات فعلًا حاسمًا في وصف الأشياء والظواهر والموجودات والكائنات وتفعيلها وإخصابها واستثمارها.
في هذا السياق، يجدر التذكير بأنّ بوبِّر يرفض في الأصل نهج الاستقراء، أي الانتقال من الحالات الخاصّة إلى الحكم العامّ. ذلك بأنّ النظر في كلّ حالة على حدة وضمّ جميع الحالات على اتّساع إمكاناتها قبل بلوغ الخلاصة الناظمة لا يتيسّران للإنسان، إذ إنّ الكون مفتوحٌ على احتمالات لا تُحصى. فأين ينتهي إحصاء الحالات الفرديّة التي ستُبنى عليها الخلاصاتُ الناظمة والأحكامُ العامّة في منهج الاستقراء؟
د. مشير عون