ربما علينا التفريق بين أفهومين:
١-التنوّع بما هو يعود في النهاية إلى الجنس الواحد الذي يندرج تحته. فالجنس ينقسم الى أنواع، أي هو يتنوَّع.
٢-التعدد بما هو لا يعود إلى جنسٍ واحدٍ أو نوعٍ واحدٍ يندرج تحته. فالتعدد هو اجتماع المختلفين مع بقائهم على اختلافهم.
في التنوّع، يبقى هاجس الوحدة المفترضة التي تحاول أن تُلغي الفروقات أو الاختلافات، أو بالأحرى، هي لا تتسامح معها إلّا بوصفها مرحلةً موقّتةً أو عابرةً، ما تلبث أن تؤوب إلى الوحدة، إلى الجنس الواحد الذي يلغي الاختلافات. هنا، قد نقع في الاستبداد والديكتاتوريّة والحزب الواحد. فالحزب الواحد يسمح بالتنوّع، لكنّه لا يسمح بالتعدد.
يتمسّك التعدد بمشروعيّة الاختلاف؛ لأنّه اجتماعٌ للمختلف مع بقائه على اختلافه. وبموجب التعدد، عليّ أن أقرَّ بحق الآخر في الاختلاف. وإقراري بذلك لا يصدر عن تسامحي معه، بل عن فهمي وإدراكي، ولا يصدر عن كونه قاصرًا عن إدراك الحق، أو ذاهبًا في مجرّد وجهة نظرٍ قد تكون خاطئةً أو قريبةً من الصواب، بل عن أنّ الاختلاف هو وجوده نفسه، وعليّ أن أتقبّل وجوده وأعترف به.
بناءً على ما سبق، علينا تمييز الاجتماع من الجماعة، وتمييز الطائفة من الوطن. فالاجتماع الأمثل هو تعاقدٌ بين أطرافٍ متساوين، والسياسة تدبيرٌ لما هو عامٌّ ومشتركٌ، وليست اختراعًا للجوهر أو عملًا على تشكيله. الوطن كثرةٌ، تعددٌ، اجتماعُ الكثرة والتعدد، بل هو إقامةٌ للكثرة والتعدد، ولا يسعى الى الوحدة إذا افترضنا أن من غايات تلك الوحدة إلغاء الفروقات والاختلافات.
إقرأ أيضًا: أول اعترافٍ رسميٍّ بسعرٍ السوق السوداء!
لذا نقول: إنّ التعدد لا يكون الا بين أحرارٍ متساوين.
ما أذهب اليه هو أعمق من الفروقات والاختلافات المذهبية، حتى الاختلاف بين الرّجل والمرأة يندرج ضمن تلك الفروقات. والمطلوب بناء وطن بناءً على اجتماع مختلفين لا متماثلين، بحيث يُعترف بحقّهم في الاختلاف ويُعاملون على هذا الأساس. قديمًا، كانت تتِمُّ المطالبة بالمساواة مثلًا بين الرّجل والمرأة على أساس أنّهما كائنان متماثلان، أمّا اليوم فعلى أساس أنّهما مختلفان، وبسبب هذا الاختلاف بالذات، يُعاملان كشريكين كاملين.
باختصارٍ، مع التعدّد تزول فكرة الأولوية والتفوق لفئةٍ على أخرى وتندثر فكرة طموح البعض إلى فرض هيمنتهم ونموذجهم على الجميع. لكن مع التنوّع، تبقى الفكرة قائمةً ولو بشكلٍ ضمنيٍّ، بحيث يعتبر البعض، بانتمائه الى فئةٍ معيّنةٍ أو حتى الى مذهبٍ معيّنٍ، أنّه يمثل المواطن بامتياز، وباقي المواطنين يمثلون درجاتٍ من المواطنيّة أدنى.
(نصٌ جميلٌ كتبناه من ثلاث سنواتٍ. وقد استثمرت فكرةً وجدتها في أحد النصوص فقمت بتحديثها وجعلها راهنةً).