المسؤولية الأولى في الحرب تقع على اللبنانيين، وكل محاولة لرميها على الخارج هي بمثابة الخطيئة الوطنية، لأنّ أي معالجة لأسباب الحرب تبدأ من التشخيص الدقيق لهذه الأسباب وليس بالتعمية ولا بالتورية عنها، وما لم يُصَر إلى معالجة المشكلة الأساسية التي تسببت بهذه الحرب، فهذا يعني انّ هناك من لا يريد الاتعاظ من هذه التجربة-الجريمة، ولا يأبه حتى من إعادة تكرارها.
فكل العوامل المتصلة بإسرائيل وسوريا ومن خلفهما من دول وما بينهما من واقع فلسطيني هي عوامل ثانوية، فيما العامل الرئيسي المسبِّب للحرب يتعلق بعدم اتفاق اللبنانيين وانقسامهم، والأسوأ من ذلك سعيهم إلى استخدام الخارج من أجل تغليب وجهة نظرهم في الداخل، ما يعني بأنّ مسؤوليتهم مزدوجة: خلافاتهم العميقة من جهة، وإفساحهم في المجال أمام الخارج للتدخل في شؤون البلد من جهة أخرى.
فلو اتفق اللبنانيون على رفض اتفاق القاهرة وكل ما يمتّ إلى هذا الاتفاق بصِلة من تشريع للسلاح الفلسطيني او من خلال غَض النظر عنه وتمسّكوا بالدولة وسيادتها، لَما وقعت الحرب اللبنانية. ولو اتفق اللبنانيون على تطبيق «اتفاق الطائف»، لَما تمكّن النظام السوري من حكم لبنان لمدة 15 عاماً. ولو اتفق اللبنانيون على بسط سيادة الدولة بعد الخروج الإسرائيلي من لبنان عام 2000، والخروج السوري عام 2005، لَما استمر الانقسام ولَما بقيت الدولة ضعيفة أو بالأحرى صوَرية.
فهناك من يرمي مسؤولية الحرب على الخارج عن حسن نية في محاولة للتخفيف من وطأة مسؤولية اللبنانيين، فيما هناك في المقابل من يضعها على الخارج عن سوء نية من أجل تبرير سلاحه، وهذا لا يعني تبرئة الخارج ومطامعه، إنما مسؤولية السيادة الوطنية ليست اختصاصاً لفريق من اللبنانيين، بل من أولى مسؤوليات جميع اللبنانيين من دون استثناء.
وبسبب 13 نيسان 1975 خسر اللبنانيون دولة بكل ما للكلمة من معنى، دولة مؤسسات، ودولة حديثة وعصرية، ومجتمع نابض وحيوي وخلّاق، وقطاع خاص مزدهر ومتقدِّم ومقدام. وليس تفصيلاً أن يُطلق على لبنان ما قبل الحرب لقب «سويسرا الشرق»، فيما لقب اللبننة بات يُطلق على كل دولة فاشلة في العالم.
وبما انّ السبب الرئيس للحرب لبناني بامتياز، فإنّ هناك أيضاً ما هو رئيسي وما هو ثانوي في سياق الأسباب المحلية، حيث يحلو للبعض ان يضع عامل غياب المساواة والشراكة كمسبّب أوّل للحرب، فيما هذا السبب وغيره من عوامل، على غرار غياب الإنماء المتوازن، هي مجرد أسباب ثانوية، بينما المشكلة الجوهرية كانت وما زالت في غياب النظرة المشتركة إلى القضايا الأساسية: فهل الشراكة كانت حالت دون الحرب في ظل من يعتبر السلاح الفلسطيني سلاحاً أخوياً وضرورياً وله حق بتحرير القدس من لبنان؟ وهل الشراكة التي تحققت في «اتفاق الطائف» حالت دون اعتبار فئة من اللبنانيين انّ الوجود السوري في لبنان هو وجود أخوي وطبيعي وانّ الجيش السوري موجود في بلده الثاني لبنان؟ وهل الشراكة التي تحققت بتمثيل كل الطوائف حالت دون الانقسام حول سيادة لبنان وحصرية السلاح بيد الدولة؟
فالشراكة أو المساواة بين الجماعات وبين الأفراد أمام الدستور والقانون مسألة مبدئية وجوهرية وضرورية ولا قيامة للبنان من دونها، ولسنا في معرض تبرير خطأ تغييب الشراكة قبل الحرب، ولكنّ اندلاع الحرب في 13 نيسان 1975 واستمرارها بأشكال أخرى بعد 13 تشرين 1990، لا علاقة له بالمساواة، إنما يتّصل بغياب النظرة المشتركة إلى لبنان، فهناك من بَدّى القضية الفلسطينية على القضية اللبنانية، وهناك من بَدّى الدور السوري على الدور اللبناني، وهناك من يعطي الأولوية للقرار الإيراني على القرار اللبناني، وبالتالي كيف يمكن الخروج من الحرب في ظل هذا التناقض في الأولويات وغياب المساحات المشتركة؟
وإذا كان الوجود السوري في لبنان حال دون اتفاق اللبنانيين على إنهاء الحرب وتحقيق السلام، فإنّ تمسّك «حزب الله» بدوره وسلاحه أبقى لبنان في حالة حرب، والحزب ليس في وارد الدخول في حوار من أجل إخراج لبنان من هذه الحالة، لأنه سيضطر إلى التخلي عن دوره وسلاحه، وبالتالي يراهن على استمرار الأمر الواقع القائم، والحزب لم يجلس إلى طاولة الحوار للبحث في سلاحه سوى في لحظة ميزان قوى لم تكن لمصلحته، ولن يجلس حول هذه الطاولة مجدداً إلّا في حال تبدُّل ميزان القوى الحالي.
واختلاف ذكرى 13 نيسان هذه السنة عمّا سبقها أنها تأتي في وضع إقليمي وداخلي يمهِّد لقلب الطاولة وتغيير موازين القوى، ولكن ليس على الطريقة القديمة، اي العودة إلى منطق الغلبة والغالب والمغلوب، إنما من أجل قيام الدولة على أسس راسخة ومتينة وشراكة ومساواة، والرهان لم يكن ولا لحظة على إرادة «الحزب» او حسن نيته من أجل مَد يده للاتفاق مع غيره باعتباره ليس في هذا الوارد، إنما الرهان كان دوماً على تَبدُّل ميزان القوى، وتَبدّله هذه المرة ليس بفعل عوامل خارجية، إنما بسبب انهيار الدولة المَمسوكة من الحزب بمفاصلها الأساسية، وعلى وقع ثورة شعبية وصلت إلى اقتناع بأنّ تغييب الدولة أدى إلى الجوع والفقر والفشل، وانّ تجاوز هذا الوضع المأسوي غير ممكن سوى عن طريق قيام الدولة.
وعلى أمل ان يكون إحياء ذكرى 13 نيسان هذه السنة خاتمة لمرحلة الحرب بوجهَيها العسكري والسياسي، لأنه خلاف ذلك سيكون لبنان أمام سيناريوات مظلمة وقاتمة لأنّ أحداً من اللبنانيين لم يعد في وارد العيش مع قوى تصادر سيادته ولقمة عيشه ومستقبله، وفي مطلق الحالات تختلف الذكرى هذه السنة عما سبقتها وتفتح الباب مبدئياً أمام مرحلة وطنية جديدة.