السبب الحقيقي لرفض «حزب الله» مساعدة صندوق النقد هو أنّ الولايات المتحدة تتحكَّم بقراراته. وفي الأساس لم يكن «الحزب» يحبِّذ تدخُّل الصندوق حتى للإستشارة. وعندما وافق عليها تحت ضغط الأزمة، بقي يتمسّك برفض مساعدته مالياً. ولكنه بات اليوم أقرب إلى الموافقة، لأنّ الجهات الدولية المانحة تتصلّب في اشتراطها على لبنان أن يمرّ بالصندوق كي يحصل على أي مساعدة.
حتى الدعم الإنساني في مواجهة «الكورونا» وجد لبنان صعوبة في تحصيله، بسبب «سلوكه الصعب» مع صندوق النقد. وهذا الأمر أحرج كثيراً حكومة الرئيس حسّان دياب. فهي تجد نفسها معنية وحدها بإخراج الوضع من المأزق، لكنها مكبّلة بالشروط والموانع. والقوى الأخرى في الحكومة ليست لها مشكلة في التعاطي مع الصندوق، لكنها تساير «الحزب» قليلاً.
عندما طلبت إيران قرضاً بـ5 مليارات دولار من الصندوق، لمواجهة الوباء، باتت الذريعة موجودة في لبنان. ولذلك، ستعتمد خطة الحكومة، من دون تحفّظ، مبدأ الحصول على مساعداتٍ مالية من الصندوق، تُقدَّر بنحو 10 مليارات دولار، لمواكبة عمليات الهيكلة المالية والمصرفية، وفق الخطة التي وعدت بإعلانها خلال الشهر الجاري.
من بعيد، يمكن رؤية المشهد الآتي: المأزق المالي- الاقتصادي الذي يعصف بلبنان حالياً، هو في جانب أساسي ترجمة للمواجهة الساخنة بين الولايات المتحدة وإيران، أي «حزب الله». ويحاول كل من المتصارعَين تسجيل أكبر قدر من النقاط ومنع الخصم من امتلاك أوراق إضافية.
فالمكاسب في القطاع المالي والمصرفي، في لبنان، تؤدي حالياً إلى مكاسب مباشرة في المجال السياسي. وعندما يتنازل «الحزب»، تدريجاً، من رفض التعاطي مع صندوق النقد بالمطلق إلى القبول بالمشورة ثم بالمساعدة المالية، فهذا يعني أنّ توازنات القوة القائمة في لبنان أفقدت إيران ورقة قوة لمصلحة الولايات المتحدة، في الشأن المالي كما في الشأن السياسي. فالتزامات لبنان المالية على مدى سنوات، ستتحكّم بالتزاماته السياسية.
وفي هذا الخضم، يتحدث متابعون عن نقاط وأوراق أخرى سارع الأميركيون إلى الإمساك بها، خصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة، على المستوى المالي والاقتصادي، ومن شأنها التأثير على توازنات القوة السياسية في لبنان خلال المرحلة المقبلة:
1- حاولت الحكومة بتشجيع من «حزب الله» تحصيل المساعدات الدولية والعربية من دون التزام الشروط التي تطرحها واشنطن، أي إصلاح المؤسسات ونأي لبنان بنفسه عن الصراع الإقليمي. ولكن، لا الأوروبيون ولا الخليجيون العرب تجاوبوا.
وتبدو المساعدات مرهونة مباشرة بقرار فك الحصار الأميركي عن إيران و»حزب الله»، ولاسيما مبلغ الـ11 مليار دولار التي أقرّ بها مؤتمر «سيدر». وهذا ما تأكّد منه لبنان في اجتماع بعبدا الأخير، مع سفراء مجموعة الدعم.
ومعلوم أنّ البنك الدولي سيلتزم أيضاً هذا الموقف لتمويل المشاريع في المرحلة المقبلة، ولو أنّ الفساد اللبناني اعتاد التعاطي مع البنك وحاول «تدجينه» لتحصيل القروض ولو من دون شفافية. وقصة سدّ بسري، ومحاولات تهريبها في ظلمة «الكورونا»، نموذج صارخ.
2- لم يتراجع ضغط العقوبات الأميركية على «حزب الله». وهو أدّى في السابق إلى إسقاط مصارف في لبنان.
3- استطراداً، ترصد واشنطن عن كثب مجريات القطاع المصرفي، أي مصرف لبنان والمصارف التجارية. ففي النهاية، هي استطاعت ممارسة «فيتو» أطاح التعيينات التي كانت مقرّرة. وهي التي تقود حركة الأموال في العالم، والتي تتخذ قراراً بتزويد المصارف ما تحتاجه من دولارات أو بحجبها.
4- تمتلك واشنطن هامش ضبط الحراك الذي سيبادر إليه الدائنون لسندات اليوروبوند أو ترك المسألة تتحوَّل كرة ثلج هائلة.
5- في نيويورك يستودع لبنان غالبية احتياطه من الذهب. وهذا يعني عملياً أنّ الأميركيين قادرون على التحكّم به إذا اقتضت الظروف ذلك وتوافرت الذرائع القانونية.
6- يتردّد الكثير من الكلام على مدى تأثر الوسطاء والشركات الاستشارية المالية والقانونية، التي تتولّى مساعدة الحكومة اللبنانية، بالمواقف الأميركية.
7- يُمسك الأميركيون جيداً بملف المفاوضات لترسيم الحدود بحراً بين لبنان وإسرائيل، ما يعني أنّ في أيديهم ورقة التنقيب عن الغاز والنفط، ضمن عمليات التقاسم في مياه المتوسط.
هذه النقاط والأوراق التي يستطيع الأميركيون استخدامها على المستويات المالية والمصرفية والاقتصادية، تؤشّر إلى العديد من ملامح المرحلة السياسية المقبلة في لبنان، وسط تحوّلات كثيرة منتظرة في الشرق الأوسط.