تحولّت المناسبات الوطنية في العقود الأخيرة إلى محطات فولكلورية، فلا الاستقلال له معنى، ولا الجلاء ولا ذكرى إعلان «لبنان الكبير» ولا أي محطة أخرى، بسبب غياب أو تغييب الدولة وانقسام اللبنانيين العمودي حول الأمور الأساسية المتعلقة بالنظرة إلى لبنان على مستوى الدور الداخلي والخارجي، ولا ينفع التكاذب سوى في تمديد الواقع المأزوم نفسه، لأنّ لا قيمة لمناسبات وطنية إذا كان الشعب في حالة انقسام وخلاف وتشرذم ورؤى مختلفة، بخاصة انّ من بديهيات قيام الأوطان وازدهارها وحدة الشعب على القضايا الأساسية، التي هي بمثابة بديهيات، على غرار الاستقلال والسيادة والدولة والجيش...
وإذا كان الانقسام حول الأساسيات - البديهيات نشأ مع نشوء «لبنان الكبير» وكان يتراجع حيناً ويتقدّم أحياناً إلى حين اندلاع الحرب في العام 1975 واستمراره بعدها بسبب عدم تطبيق اتفاق الطائف والتغييب المتواصل للدولة، فإنّ هذا الوضع قد وصل في الذكرى المئوية على الإعلان الشهير، إلى الذروة، بفعل الانهيارات غير المسبوقة في الجسم اللبناني، وتحديداً على المستوى الاقتصادي والمالي، على وقع بنية سياسية منقسمة ودولة ضعيفة ومؤسسات مترهلة وشعب غاضب وثائر بحثاً عن لقمة عيش ومساحة آمنة تضمن له العيش بأمن واطمئنان.
وبمعزل عن اللازمة التي يردّدها كل فريق، والشعارات التي تحولت على اختلافها إلى خشبية، فإنّ ما لا يمكن إخفاؤه، انّ لبنان أصبح بحاجة إلى إعادة تركيب لا ترقيع، ومن سخريات القدر انّ الشعوب بمعظمها لا تتعظ من تجاربها ولا تستشرف ما هي مقبلة عليه، من أجل ان تستبق الانهيار الشامل بحوار صريح ومعمّق يفضي إلى اتفاق وطني جديد، فتترك الأمور تنزلق إلى القعر ليصبح البحث عن اتفاق جديد حاجة تفرضها الأحداث المأسوية بدلاً من حكمة المسؤولين في تجنيب البلاد والشعب ما هو أسوأ.
وكل المؤشرات تدلّ بأنّ «لبنان الكبير» وصل إلى نهايته، وهذا لا يعني العودة إلى «لبنان الصغير» ولا التخلّي عن اي شبر من لبنان الـ10452 كلم، إنما البحث عن اتفاق جديد يعيد الحياة إلى وطن لم يعد يعرف سوى الموت والدمار والخوف والانهيارات والفوضى والانقسام، ولا يفيد بشيء التلطّي خلف بعض الشعارات أو المزايدة بعناوين تجاوزتها الأحداث والتطورات، كما لا يفيد بشيء الرهان على تطورات خارجية تساعد هذا الفريق أو ذاك في تزكية وجهة نظره على حساب الآخر ضمن سياسة الغالب والمغلوب، لأنّ هذا الخيار أو الاتجاه جُرِّب في أكثر من مرحلة ومحطة، ونتيجته كانت تمديد الواقع المأزوم بسبب الانقسام العميق بين اللبنانيين، الذي لا يمكن حلّه سوى بالحوار والاتفاق على معنى لبنان، ومن ثم ترجمة هذا الاتفاق عن طريق الشراكة والتآلف من أجل بناء وطن مستقرّ وآمن.
ولأنّ اي فريق غير مستعد للدخول في حوار ونقاش إلّا، ويا للأسف، بعد سقوط الهيكل، فإنّ التجربة التي أُعيد بعثها بعد الحرب شارفت على النهاية، والذكاء اللبناني، إن وجد، يكمن في تلقُّف اللحظة السياسية تجنيباً للأسوأ، ولكن لا يبدو انّ هذا الأمر متاح حتى اللحظة بسبب شعور الفريق القابض على القرار السياسي، انّ باستطاعته تمديد الواقع القائم إلى أجل مفتوح، في ظلّ رهانه الثابت والدائم على قوته والتطورات الخارجية، كما لا يبدو انّ هذا الفريق بالذات على استعداد للالتزام بالمساحة المشتركة التي تجمع اللبنانيين والمتمثلة باتفاق الطائف، ولذلك يتعذّر الترميم والتصويب وتصبح الحاجة ملحّة إلى ولادة جديدة لمئوية جديدة.
فبعد خروج الجيش السوري من لبنان، أمسك «حزب الله» بمفاصل الدولة اللبنانية، وللمصادفة التاريخية، انّ الهيمنة السورية انتهت بعد 15 عاماً، وانّ هيمنة الحزب على الدولة شارفت بعد 15 عاماً أيضاً على نهايتها، حيث لم يبق من الدولة اي شيء يُذكر، فلا استقرار سياسي ولا مالي ولا أهلي ولا أي مقومات تضمن استمرار الدولة، ولم يعد يشكّل الحزب قوة الارتكاز التي باستطاعتها ان تواصل إمساكها بمفاصل البلد بسبب تراجع دور مرجعيته الإقليمية من جهة، ودخول البلد في موت سريري على أكثر من مستوى من جهة أخرى.
وما تقدّم، لا يندرج في سياق التمنيات ولا wishful thinking، إنما يدخل في إطار الوقائع الملموسة لدى جميع اللبنانيين بأنّ هناك شيئاً ما قد انتهى فعلاً، والوقت القليل الفاصل كفيل لوحده بإعلان نهايته او الوصول إلى النهاية المحتمة من دون إعلان.
ولكن السؤال الأساس يبقى: ماذا بعد؟ وما هي معالم المرحلة الجديدة؟ وما هي طبيعة الاتفاق الجديد؟ وهل يمكن تلقُّف اللحظة واستباق الآتي من التطورات؟ وهل لبنان أمام ولادة جديدة أم نهاية لمئوية من دون التأسيس للمئوية الجديدة؟ وهل العبور إلى لبنان الجديد سيكون سالكاً وسهلاً، أم انّ لبنان سيعبر في نفق مظلم قبل الخروج إلى الضوء والسلام مجدداً؟
وإذا كان يصعب التكهُّن بطبيعة المرحلة الجديدة، فإنّ كل المؤشرات تقود إلى انّ لبنان 1920 سينتهي في 2020، ومن المفيد في خضم الأزمات المتناسلة الوطنية والسياسية والمالية والصحية، التفكير أبعد من اللحظة الراهنة، بحثاً عن شبكة أمان وجسور تلاقٍ لولادة جديدة للبنان الجديد في المئوية الجديدة، التي لا يجب ان تُقارن بالمئوية السيئة التي سبقت وشهدت كل أنواع الحروب والانهيارات والانقسامات، لأنّ المواطن اللبناني يريد العيش في دولة طبيعية تضمن حرّياته وأمنه واستقراره بعيداً من الصراعات الوجودية والأيديولوجية، التي تبقي لبنان في حالة حرب، فيما المطلوب الوصول إلى السلام اللبناني، اي السلام بين اللبنانيين، والذي من دونه يعني على لبنان السلام.