على وقع تزايد أعداد الفقراء والمعدومين في لبنان على نحو هائل وكارثي، وتحذير منظمة "هيومن رايتس ووتش" من مغبة تعرض ملايين اللبنانيين للجوع.. دأبت وزارتا الزراعة والاقتصاد على العمل لضبط ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية، بعدما بلغت أسعار غالبية أصنافها مستويات خيالية تفوق أضعاف ما كانت عليه قبيل أزمة انتشار وباء كورونا.. وهو ما لم يلحظه رئيس حكومتنا حسان دياب، الذي لم ير أسعاراً "نافرة" خلال جولته على إحدى المؤسسات التجارية، في إشارة إلى أن أسعار المواد الاستهلاكية تبدو طبيعية بالنسبة له! الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مدى اطلاع دياب على ما كانت عليه الأسعار قبل الأزمة، وجهله لمعايير الاحتكار والغلاء وتراجع القدرة الشرائية، وعدم معرفته بمتوسط مدخول المواطن العادي.
وجاء في المقال: "بعيداً عن تغريد دياب خارج كوكب فقراء لبنان وجياعه، وترسيخه نظرية قبوع سياسيينا في أبراجهم العاجية.. لا تعدو محاولات الوزارتين لضبط الغلاء، من خلال تحديد أسعار توجيهية للمنتجات الزراعية، ووضع سقف لهامش الربح للتجار، كونها محاولة جيدة وحسب. لكن العقبات التي تقف حائلاً أمام نجاحها، لن تتيح لوزارتي الاقتصاد والزراعة ضبط جشع التجار بسهولة، في ظل الفوضى العارمة في سوق صرف الدولار من جهة، والمماطلة في البت بقضايا مخالفات التجار من جهة أخرى، على نحو يلعب القضاء فيه دور "المقبرة" التي تبتلع مئات وربما آلاف محاضر الضبط بحق تجار مخالفين، من دون أن تبت بأي منها.
أسعار توجيهية "غير مُلزِمة"!
أعدّ وزير الزراعة والثقافة عباس مرتضى مشروع "تحديد الأسعار"، مطلقاً لائحة توجيهية بأسعار الخضار والفاكهة لدى بائعي الجملة، على أن لا يتعدّى الربح على البضائع نسبة الـ20 في المئة، أو 30 في المئة. وأفسحت وزارة الزراعة المجال أمام تلقي الاتصالات لتقديم الشكاوى عن أي مخالفة في الأسواق اللبنانية. وقوبلت مبادرة وزارة الزراعة بترحيب وثناء من وزارة الاقتصاد، التي تعهّدت بمراقبة هوامش الربح بين التاجر والمستهلك. لكن في بلد يتخّذ المستوردون والتجار من نظامه الاقتصادي الحر غطاءً لجشعهم واحتكارهم، وتعبث الفوضى في سوق صرف عملته، وينام قضاته على محاضر ضبط بحق تجار فاسدين.. كيف به أن يضبط أسواقه ويحمي مستهلكيه من الجشع والإستغلال؟
ولأن النظام الاقتصادي "حرّ"، اتجهت وزارة الزراعة إلى وضع لائحة "توجيهية" للأسعار، وليس إلزامية. لكنها تحاول ضبط إيقاع رفع الأسعار من خلال تحديدها هوامش الربح، وفق ما يقول وزير الزراعة عباس مرتضى في حديثه إلى "المدن". فالهدف أولاً وأخيراً حماية المواطن من الغلاء، وإعطاء كل ذي حق حقه، وفق معادلة ذهبية تحفظ حق المزارع والمستهلك والتاجر: "وهذا ما تحاول الوزارة القيام به، من خلال مبادرتها لإطلاق مشروع تحديد الأسعار، علماً أن التدخل في أسعار المواد الإستهلاكية لا يدخل في نطاق صلاحياتها، إنما يبقى الهدف الأسمى هو حماية المستهلك".
آلية المراقبة
عوامل كثيرة تدخل في تحديد آلية المراقبة ونسب الأرباح، وإن كان لا يجب أن يزيد هامش الربح عن 20 إلى 30 في المئة عن سعر الجملة، الذي تم توجيهه من قبل وزارة الزراعة. ووفق مدير مصلحة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد والتجارة، طارق يونس، فمن العناصر التي يتم أخذها بالاعتبار خلال جولات المراقبة، نوع المنتج، وما إذا كان مستورداً أو محلي الصنع، وما إذا كان يستلزم مواداً أولية مستوردة، ومستوى إيجارات المحال التجارية، وفق المناطق والأحياء، وسعر الدولار وفق تاريخ الفاتورة، وبعض التفاصيل الأخرى التي تجعل من مهمة المراقبة معقّدة وشاقة جداً.
وبعد مقارنة الأسعار والتدقيق بتكلفة شرائها، والعناصر الأخرى كسعر الدولار، ومستوى الإيجارات وغيرها، يتم تحديد هوامش الربح، وما إذا كانت منطقية أو مُبالغ فيها. ويوضح يونس في حديثه إلى "المدن": نحتاج كمراقبين إلى قرابة 10 أيام لتقييم المراقبة، والتحقّق من مدى التزام التجار بأسعار الجملة، وللتمكّن من تتبّع المنتجات إلى المحال التجارية، وصولاً إلى المستهلك.
عقبات أمام ضبط الأسواق
تشكّل الفوضى في سوق صرف الدولار أبرز العقبات في وجه مراقبة وضبط الأسواق، لاسيما أن سعر الدولار يرتفع بشكل يومي. وتستند إليه فواتير شريحة كبيرة من المنتجات، منها كل ما هو مستورد، إضافة إلى المواد الأولية المُستخدمة في المنتجات المحلية، يقول يونس، لذلك فإن أي محاولة لوقف مسلسل الغلاء في السوق، من دون ضبط سعر صرف الدولار، سيبقى بلا نتيجة: "لكن من المرتقب أن تساهم حملات المراقبة بعد تحديد الأسعار التوجيهية وهوامش الربح عليها بالتخفيف من غلائها إلى حدّ ما".
عقبة أساسية أخرى تشكل عائقاً في وجه محاسبة المخالفين من التجار، تتمثل في غياب الصلاحيات لوزارة الاقتصاد ومراقبيها. إذ يقتصر عملهم على تحرير محضر ضبط بحق التجار المخالفين، إلا أن الترجمة الفعلية لمحاضر الضبط غير متوافرة، لاسيما أن القضاء يتأخر كثيراً في البت بالقضايا المحالة من وزارة الاقتصاد. ومنها ما ينتظر لأشهر وسنوات قبل البت به.
تقاعس القضاء وغياب أي ملاحقات جدّية بحق التجار المخالفين، دفع بوزارة الاقتصاد إلى تعديل قانون حماية المستهلك، ما يخوّلها تحرير محاضر ضبط وفرض غرامات لصالح خزينة الدولة. إلا أن مشروع القانون لاقى رفضاً شرساً من قبل الهيئات الاقتصادية، التي تضم كارتيل التجار. ووفق مصادر وزير الاقتصاد راوول نعمة في حديث إلى "المدن"، فإنه لن يتوانى عن استكمال العمل على إقرار قانون حماية المستهلك بتعديلاته الأخيرة، بما يعزّز صلاحيات حماية المستهلك.
وقد سبق للوزير نعمه أن رفع كتاباً إلى وزيرة العدل، ماري كلود نجم، في وقت سابق، يضم لائحة بأسماء المؤسسات المخالفة والمحولة إلى القضاء في جميع المحافظات، والتي يبلغ عددها 520 محضر ضبط، من 1 تشرين الأول 2019 لغاية 6 آذار 2020، متمنياً اتخاذ التدابير اللازمة، من أجل الإسراع في البت بالمحاضر التي تم تسطيرها بحق المؤسسات المخالفة، والتشدد في تطبيق القانون، لردع المخالفات وقمع الغش في الأسواق.
كادر بشري
وتعزيزاً للكادر البشري التابع لوزارة الاقتصاد، المعني بمراقبة الأسواق، والذي لا يتجاوز تعداده 95 مراقباً مسؤولاً عن مراقبة المحال التجارية والمولدات الكهربائية ومحطات المحروقات وغيرها، على كامل مساحة لبنان، بادرت وزارة الزراعة إلى وضع عدد كبير من كادرها البشري، ومنهم حراس الأحراش والأطباء البيطريين والمساعدين الفنيين والمهندسين الزراعيين، أي مئات الأشخاص، في موقع المساند لوزارة الاقتصاد في إطار رقابة الاسواق.
تحذير من مجاعة
وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، حذرت في بيان لها، الأربعاء 8 نيسان، من جوع يتهدد سكان لبنان جراء انتشار فيروس كورونا المستجد، والقيود المتخذة لمكافحته في هذا البلد، الذي يشهد أساساً انهياراً اقتصادياً، داعية الحكومة إلى إتخاذ إجراءات سريعة لتقديم مساعدات إلى الأكثر تضرراً.
وذكرت المنظمة في بيانها أن "الملايين من سكان لبنان مهددون بالجوع بسبب إجراءات الإغلاق المتصلة بالوباء، ما لم تضع الحكومة على وجه السرعة خطة قوية ومنسَّقة لتقديم المساعدات".
وأفادت لينا زيميت وهي باحثة أولى في الفقر واللامساواة في "هيومن رايتس ووتش"، بأن عديدين خسروا دخلهم، "وقد يعجز أكثر من نصف السكان عن شراء غذائهم وحاجياتهم الأساسية إذا لم تتدخل الحكومة".
عزة الحاج حسن