في عهد وكلاء إيران في العراق تتوالى مظاهر تبدو في ظاهرها سياسية لكن في حقيقتها لا صلة لها بالسياسة أو المبادئ، إنما هي إرهاصات من البدع الملفّقة والمغلفة بالدين والمذهب يروّجها نظام طهران عبر وكلائه، والهدف منها الحفاظ على المستوى الذي وصل إليه في نفوذه بالعراق. من بينها بدعة عمالة بعض السياسيين الشيعة للولايات المتحدة في ذات الإيقاع المتخلف الذي سبق توجيهه نحو السياسيين من خارج البيت الشيعي.
هناك حقيقة سياسية تتعلق بالمشروعية العقائدية للنفوذ الإيراني في العراق الذي أباح التخابر وإعطاء المعلومات للمركز الاستخباري الإيراني، عبر استثمار الولاء العقائدي لولي الفقيه وعدم التردد في إعطاء نظامه وأجهزة استخباراته كل المعلومات المطلوبة حتى وإن أدى ذلك إلى ضرر جسيم بالعراق ومصالحه العليا. لأن عقيدة ولي الفقيه لا تضع حدودا للوطن وهي النظرية التي رفضها شباب العراق وأعلنوا بطلانها في انتفاضتهم الأخيرة.
روّجت قصة عمالة عدنان الزرفي لأميركا بعد إعلان ترشيحه لرئاسة الوزارة وليس قبلها، كجزء مما أتقنه أنصاف السياسيين في الإسقاط، ولقطع الطريق أمام من تتوفر لديه فرصة تولي منصب رئاسة الوزارة من خارج الأمر الإيراني في ظل وضع عراقي خطير فرضته تداعيات وباء كورونا، رغم أن الزرفي هو واحد من الفريق السياسي الذي لا يخرج عن ضوابط الحكم الشيعي الذي يضع لولي الفقيه مكانة خاصة.
مستوى الصراع بين الوطني العراقي والخائن العميل للخارج أصبح واضحا بتفصيلات يومية لا تغطيها الشعارات التي تهدف إلى إثارة الشكوك ضد كل سياسي ما زالت لديه الحدود الدنيا من الوطنية العراقية. فقد تمزقت شعارات الإرهاب والبعثية والعمالة للسعودية التي كانت موجهة للعرب السنة المعارضين لسياستهم ولم تعد صالحة للتسويق، خصوصا عندما يكون المستهدف من الشيعة المتمردين على قرارات ولي الفقيه الإيراني.
الآن أخطر مرحلة يواجهها وكلاء إيران، حيث تنكشف هشاشة سيطرتهم على الوضع العراقي داخل منظومات قيادة العمل السياسي الشيعية، وتتبعثر حشودهم رغم التفاخر بقوة سلاحهم وقدرتهم على حرق العراق إن جاء مسؤول يحكمه خارج مشيئة طهران، وهم في حالة هلع بعد أن انهزموا سياسيا أمام الشباب الشيعة بانتفاضتهم السلمية، فقتلوا وجرحوا منهم أكثر من 25 ألف شخص، فاندفعوا بتخبط الأوامر بإطلاق بالونات الانقلاب العسكري الأميركي، وحين تبددت هذه الفقاعة، أطلقوا بدعة عمالة رفاقهم لأميركا لكنهم وقعوا في ارتباك جديد.
المتحدثون عن العمالة لا يمتلكون الحد الأدنى من الوطنية العراقية، فقد طعنوها وخانوا بلدهم في فترات زمنية ليست بعيدة قبل عام 2003 وبعده، سواء في عمالتهم لواشنطن أو طهران. هؤلاء المتسيدون على رقاب العراقيين لا يستطيعون إنكار أن أغلبهم وفد إلى العراق من إيران بعد تاريخ مخز من العداء للوطن تحت عنوان محاربة نظام صدام، وبعضهم عاش هناك مقاتلا داخل صفوف الحرس الثوري الإيراني ضد العراق وجيشه الوطني، وغالبيتهم تجنسوا بالجنسية الإيرانية ولا تمر مناسبة إلا وعبروا عن امتنانهم لإيران.
حين منح الأميركان هؤلاء العملاء الإيرانيين الفرصة التاريخية بحكم العراق كانوا أعز الأصدقاء والأحباء لهم، ويصغون إصغاء الطلبة المطيعين إلى ما يمليه عليهم الحاكم بول بريمر من أوامر وتعليمات. كان في كل وزارة تشكلت بعد عام 2004 مستشار أميركي يراقب أداءهم ويتلقون منه التعليمات، ألم يقدّم زعيم حزب الدعوة إبراهيم الجعفري سيف ذوالفقار هدية عرفان لوزير الدفاع الأميركي دولاند رامسفيلد، ورجا عبدالعزيز الحكيم، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الرئيس الأميركي جورج بوش الابن عام 2006 خلال لقائه به في واشنطن، ومعه عادل عبدالمهدي، عدم سحب القوات الأميركية من العراق.
مثّل مدعو الوطنية في سلوكهم أعلى درجات الازدواجية في العمالة، ومعروف في عالم الجاسوسية عقاب المزدوج في التخابر، واعتقدوا أن في ذلك شطارة. وفي النهاية وجدوا العودة إلى أوليائهم طريقا لفك تلك الازدواجية بعد رحيل القوات الأميركية من العراق عام 2011. ولدى أجهزة المخابرات الأميركية ملفات للعمالة والسرقة لكل من تصدّر المسؤولية في بغداد، ولعل الوثائق الأخيرة التي نشرتها وكالة المخابرات الأميركية كشفت جزءا من قصص العمالة والتجسس لطهران.
أصبح الفرز أمام العراقيين واضحا بعد نهاية الحرب على داعش عام 2017 ما بين الموالين لطهران وهم خونة الوطن، الذين يطلقون على أنفسهم عنوان “المقاومة الإسلامية الإيرانية”، المتورطون في قتل واعتقال واختطاف عشرات الألوف من العراقيين، وبين المتصدين للعمل السياسي غير الموالين لطهران وباقي الوطنيين العراقيين. فيتهم بالعمالة لأميركا كل سياسي شيعي يحاول التجرؤ بالخروج على التبعية المطلقة لنظام طهران، بعد أن شعر قادة الميليشيات بالمخاطر من داخل البيت الشيعي نفسه ولم يعد لديهم من موالين، حتى أولئك المرتزقة في منابر الحسينيات الذين يروّجون الخرافات بين صفوف البسطاء، قد انقلبوا عليهم.
سبق أن اتهم حيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق بالعمالة لأميركا، حين عرفوا بنيته للترشيح لولاية ثانية عام 2018 دون رغبة قاسم سليماني مهندس النفوذ الإيراني في العراق، غير مكترثين بإنجازه المعركة ضد داعش لكنهم عرفوا أن العبادي قد اطلع على تفصيلات يومية لحقائق الدور الأميركي والتحالف الدولي ودور إيران في الانتصار، ولم يكن مستعدا، للإمضاء على تزوير التاريخ القائل بأن إيران هي التي حررت العراقيين مثلما ادعى كثر من القادة الميليشياويين في إهانة لدماء أكثر من أربعين ألف قتيل عراقي.
ليس دفاعا عن عدنان الزرفي فهو قادر على الدفاع عن نفسه، لكن من يتهم المعارضين للميليشيات الإيرانية بالعمالة للولايات المتحدة، عليه أن يثبت أيضا حصانته من العمالة لإيران.