فلو أراد هؤلاء، ودائمًا بصيغة المجهول، حقيقة أن يكون القضاء في منأى عن تدخلاتهم السياسية لكانت هذه التعيينات قد أبصرت النور، ولكان العمل القضائي قد إستقام بنسبة عالية، لأن مجلس القضاء الأعلى، وبإجماع أعضائه، مقتنع بأنه وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وهو لم يعتمد في هذه التشكيلات أي مصلحة أخرى سوى مصلحة القضاء، المطلوب منه في المرحلة الآتية الكثير من العمل على ملفات عالقة، ومطلوب منه أيضًا أن يقوم بإنجازات لم يستطع القيام بها في الماضي لأسباب بعضها معروف وبعضها الآخر لا يزال غامضًا.
كثيرون من هؤلاء المجهولين المعروفين لا يريدون أن يأخذ القضاء دوره كاملًا، لأنهم وبكل صراحة وبساطة يريدون أن يبقوه طيّعًا ومطيعًا، وهذا ما يتناقض مع مبدأ فصل السلطات، ويخالف ابسط قواعد العدالة، التي يُفترض أن تكون شفافة ونزيهة وغير منحازة لفريق ضد فريق آخر، وألاّ تكون إستنسابية غير مستندة إلى القوانين والضمير.
وما دامت التشكيلات القضائية متروكة في أيدي السياسيين، فإن الرجل المناسب لن يكون في مكانه المناسب، وسيبقى القضاة المعينون من قبل مرجعياتهم السياسية خاضعين لسلطتهم وأداة طيّعة في ايديهم، وبالتالي فإن الأحكام التي يصدرونها ستصبّ دائمًا في مصلحة هؤلاء، وسيكون القضاء بالتالي سلاحًا في أيدي من هم في السلطة لمحاربة أخصامهم السياسيين وتركيب لهم ملفات وقضايا من لا شيء، وذلك تحت مسمى القانون والعدالة. وهذا الأمر يشكو منه مجلس القضاء الأعلى، الذي إنتفض في وجه السياسيين وردّ التشكيلات كما أقرّها منذ البداية إلى وزيرة العدل، ولم يدخل عليها أي تعديل ولم يخضع للضغوطات التي مورست عليه، وهو أراد بذلك أن يكون سبّاقًا في عملية الإصلاح ومحاربة الفساد. فإذا لم يكن القضاء مستقلًا عن السياسة والسياسيين، وإذا لم يكن حرًّا في خياراته القانونية فعبثًا التفتيش عن الإصلاح في مكان آخر، لأن الإصلاح يبدأ بالقضاء وينتهي معه وبه.
ويتساءل المتسائلون: كيف يمكن مكافحة الفساد إذا كان القضاء فاسدًا. ولكي لا يكون القضاء فاسدًا يجب إبعاده عن السياسة وأهلها، ولكي يستطيع هذا القضاء غير الفاسد محاربة الفساد أينما وجد يجب رفع يدالسياسيين عنه، وهذا لا يتمّ إلاّ إذا كان القضاء مستقلًا وحرًّا، ولكي يكون هذا القضاء حرّا ومستقلًا يجب تحريره من يد السياسيين، وهذا لا يكون إلاّ إذا تحررّت التشكيلات القضائية من القابضين عليها.
فلو لم يكن في بعض المناصب القضائية الحساسة قضاة معينين من قبل مرجعياتهم السياسية لما مرّ قرار إبطال التعقب بحق العميل عامر الفاخوري ولما تمكّن من الخروج من سجنه ومن البلاد بهذه الطريقة.
ولو لم يكن في بعض المراكز المهمة قضاة يمون عليهم بعض السياسيين لما رُكبّت ولُفقت بعض الملفات ضد سياسيين جلّ ما فعلوه أنهم رفعوا الصوت عاليًا وقالوا لا في وجه من يُعتربون كبارًا في الدولة.
أيها السياسيون إرفعوا أيديكم عن التشكيلات القضائية إذا كنتم فعلًا تريدون الإصلاح الحقيقي!
أندريه قصاص