في داخل تركيبة السلطة، هناك قوى تحاول تسويق هذه الفكرة. وفي الطليعة، يهمّ "حزب الله" أن يستقطب أصدقاء دوليين وعرباً، وأن يدفع البلد "تسلُّلاً" خارج الملعب الأميركي. وهذا هو الاتجاه الذي تسلكه طهران أساساً في سعيها إلى فكّ الحصار الأميركي عنها.
ولكن، اللافت هو أنّ العديد من القوى والزعامات "التقليدية" اللبنانية لها مصلحة أيضاً في تقليص الضغط الأميركي على التركيبة اللبنانية، سياسياً واقتصادياً ومالياً. وبعض هذه القوى حليف لـ"حزب الله"، ولكن هناك خصوم له أيضاً.
لقد بعثت واشنطن برسائل متلاحقة إلى لبنان، في السنوات الفائتة، تطالب بالتصدّي للفساد واعتماد الشفافية والنزاهة، انطلاقاً من كون الإصلاح مدخلاً لا بدّ منه لتكريس النأي بالنفس عن المحاور الإقليمية، ولا سيما إيران.
وأوحى هذا الأمر لبعض المعنيين بأنّ عليهم أن يغيِّروا سلوكهم… وإلّا فعليهم أن يتغيَّروا، أي أن تأتي إلى الحياة السياسية والسلطة طبقة بديلة منهم. وهذا الأمر يعني لهم الحياة أو الموت، سواء غيَّروا سلوكهم وانكشَف فسادُهم أو تغيَّروا هم ورحلوا عن المشهد.
وعلى مدى عقود، اعتاد الطاقم السياسي أن يحصل على الدعم المالي، خصوصاً من دول الخليج الغنية، وبتغطية من الأصدقاء الأوروبيين والولايات المتحدة. وحتى العام 2007، اضطلع الفرنسيون بدور أساسي في ذلك، من خلال مؤتمرات باريس 1 و2 و3. ولم يتوقف هذا الدعم على رغم أنّ لبنان كان يُخِلّ دائماً بوعود الإصلاح.
ولكن، تبدَّل المناخ بدءاً من 2017. فإدارة الرئيس دونالد ترامب سلكت نهجاً حازماً تجاه إيران و"حزب الله". ولذلك، اختلف تماماً المناخ الذي سيطر على مؤتمر باريس 4، أي "سيدر"، في ربيع 2018.
أبلغ الفرنسيون صديقهم الرئيس سعد الحريري أنّ لبنان لن يحصل على دولار واحد إلا بإشراف المؤسسات والدول المانحة مباشرة، وفي مناخ من الشفافية الكاملة، وفي ظل عملية تدقيق وإصلاح للمؤسسات. وأرسلوا موفدهم بيار دوكان إلى بيروت في جولات عدة، وأبلغ المسؤولين هذه الشروط بشكل مُلِحّ وواضح.
وقد دخل الموفد في تفاصيل العديد من بنود الإصلاح المالي. ويتردّد أنه طرح إعادة تقويم سعر الليرة بشكل معتدل (دون الـ2000 للدولار) تجنّباً لكارثة تقترب، لكنّ الجانب اللبناني تعاطى بجمود واستخفّ بالنصائح الفرنسية.
المطّلعون يقولون: الفرنسيون يريدون للبنان أن ينتهج طريق الإصلاح، ولو كانت الأمور في يد الرئيس إيمانويل ماكرون من دون سواه لاستأنف تقديم المساعدات إليه، من دون الإصلاح. ففرنسا تتعاطى مع لبنان كالأمّ مع طفلها المدلَّل. هي حريصة على مصلحته، لكنها لا "تكسر خاطره" في النهاية، وهو يعرف ذلك… فيزيد الدلع!
الأميركيون هم الذين حسموا الموقف: لا مساعدات للبنان ما دامت مؤسساته ينخرها الفساد، وما دام ملعباً لنفوذ إيران. وهذا السقف التزَمه الفرنسيون وكل المعنيين. وعندما تُرِك لبنان لمصيره من دون مساعدات، وصل إلى الهاوية.
يواصل الفرنسيون محاولاتهم، من جهةٍ لدفع لبنان إلى الإصلاح، ومن جهة ثانية لفكّ الحصار الأميركي عنه. لكنهم فشلوا في المهمَّتين. وقد استاء الأميركيون من موقفهم المتساهِل خلال اجتماعات اللجنة الثلاثية التي تشكّلت بعد 17 تشرين الأول 2019، وضمّت رؤساء أقسام الشرق الأوسط في وزارات الخارجية الفرنسية والبريطانية والأميركية.
ولذلك، تركت واشنطن للبريطانيين أن يضطلعوا بدورٍ، لأنهم أقرب إلى وجهة النظر الأميركية. ولكن، سرعان ما انتهت اللجنة إلى الفشل والجمود، أواخر العام الفائت.
اليوم، وصل لبنان إلى حالٍ أكثر من كارثية. لكنّ القوى المُمسكة بالسلطة ما زالت ترفض الإصلاح ما دام سيكشفها ويقضي عليها. وفي الموازاة، يرفض الأميركيون دعم لبنان إذا كان سيؤدي إلى دعم هذه القوى وإنقاذها ثم إنعاشها.
وفي اعتقاد بعض المتابعين أنّ مبادرة رئيس الجمهورية تجاه سفراء مجموعة الدعم ليست بعيدة عن الرغبة الفرنسية في إنقاذ لبنان، مقابل أن تقدِّم حكومة الرئيس حسّان دياب حدّاً أدنى من التزامات الإصلاح. ولذلك، سارعت الحكومة أمس إلى تَفقّد الخطة.
بمعنى آخر، يُحاذر الفرنسيون أن يدفع لبنان ثمن نفوذ "حزب الله" وإيران. ويفضّلون إعطاءه فرصة لئلّا يسقط، خصوصاً في ظل الأزمة الوبائية.
بالنسبة إلى "حزب الله"، إنّ أي مبادرة فرنسية للإنقاذ ستكون جرعة تساعد على التحمّل لتمرير فترة الانتظار الصعبة حتى الخريف، الموعد المفترض للانتخابات الأميركية وتبلور حظوظ ترامب في الولاية الثانية.
ولكن، هل يوافق الأميركيون على منح "الحزب" هذه الفرصة أم يزيدون الضغط إلى الحدّ الأقصى لتسريع إنضاج الطبخة؟ في الحالين، لبنان على النار.