تثير المشاركة العربية في الانتخابات الإسرائيلية، في كل مرة، جدلا حاميا في أوساط الفلسطينيين، لاسيما من “مواطني إسرائيل”، الذين تعتبرهم إسرائيل بمثابة درجة أدنى، لاسيما بعد تعريفها لذاتها، وفقا لـ”قانون الأساس” (مكانة دستورية)، الذي سنّته قبل عامين، 18 يونيو 2018، ونصّ على اعتبار أن إسرائيل “دولة قومية للشعب اليهودي وكذلك اسمها، رمزها ونشيدها”.
هكذا فرغم أن إسرائيل كانت كذلك، منذ إقامتها عام 1948، إلا أن سنّ ذلك القانون بعد 70 عاما على قيامها، يعني تضييق هامش الديمقراطية والحقوق أمام فلسطينيي 48، أي المواطنين الأصليين، أو دفعهم إلى هامش الدولة أكثر من ذي قبل، مع رسالة لهم مفادها أن مواطني إسرائيل من اليهود حصرا هم أصحاب الدولة والمواطنة، وأنهم وحدهم يتمتّعون بالسيادة وبحق تقرير المصير فيها.
أما من جهة الإسرائيليين عموماً فقد أثار ذلك القانون مسألتين، الأولى أن إسرائيل هي دولة أكثر يهودية وأقل ديمقراطية، وأن الحدّ الأول له الأولوية على الحدّ الثاني، علما أن التناقض حول الحديّن المذكورين ظل مطروحا، طوال العقود الماضية، ولو بصورة مراوغة. والثانية، تفيد بانتصار التيار الديني والقومي في المجتمع الإسرائيلي على التيار الليبرالي الديمقراطي واليساري، وهو ما بات يتمثل بجنوح أغلبية الإسرائيليين نحو اليمين، القومي والديني، وفوز التيار الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، زعيم حزب ليكود، بإدارة الدولة منذ 11 عاماً، وتاليا أفول أحزاب الوسط الليبرالية والعلمانية واليسارية كحزب العمل (صاحب الفضل في تأسيس الدولة) وميريتس.
وقد يجدر التذكير هنا أن نتنياهو شغل منصب رئيس حكومة إسرائيل أكثر من أي رئيس حكومة سابق، وحتى أكثر من المؤسّس دافيد بن غوريون ذاته (زعيم حزب ماباي التاريخي الذي تفرع عنه حزب العمل عام 1968)، إذ أتى نتنياهو إلى ذلك المنصب في مارس 2009، وأعيد انتخابه عام 2013 وعام 2015، وثلاث مرات في الأعوام 2019 و2020، علما أنه تولى رئاسة الحكومة في مرة سابقة استمرت من عام 1996 إلى 1999، بمجموع قدره 14 عاما!
على أي حال فإن انقسامات واختلافات فلسطينيي 1948 حول المشاركة في الكنيست هي أسبق بكثير من تشريع قانون إسرائيل كدول يهودية، بَيْدَ أن سنّ ذلك التشريع في الكنيست حسم أو قلّل، من إمكانية التعويل على هامش الديمقراطية الإسرائيلية، الأمر الذي أعطى حجة قوية لتيار مقاطعة الانتخابات الإسرائيلية، القومي واليساري والديني.
وللتذكير فإن الفلسطينيين من مواطني إسرائيل (قرابة المليونين) منقسمون، إزاء مسألة الانتخابات، وإزاء مسألة التعاطي مع دولة إسرائيل، إلى عدة اتجاهات أهمها: تيار المقاطعة مقابل تيار المشاركة، وتيار الوسط.
وبالتفصيل فإن تيار المقاطعة لا يرى أن ثمة أي جدوى من المشاركة في الانتخابات، لا على مستوى الحقوق الفردية والمدنية، ولا على مستوى الحقوق الجمعية والوطنية، بل إنه يرى في تلك المشاركة نوعا من الاعتراف بإسرائيل، والتعايش معها كدولة يهودية وصهيونية. أيضا فإن هذا التيار لا يعترف بإسرائيل مطلقا، ويرى أن أي مشاركة تعتبر نوعا من “الأسرلة” والتطبيع. وينضوي في هذا الإطار يساريون وقوميون (أبناء البلد) وإسلاميون (الجناح الشمالي بزعامة الشيخ رائد صلاح).
وبالنسبة لتيار المشاركة (على تعدديته) فإن العضوية في الكنيست يمكن أن تعزز حقوق الفلسطينيين، كما من شأنها كبح جماح التيارات الصهيونية، القومية والدينية المتعصبة والمتطرفة، إضافة إلى أنه نوع من العمل السياسي الذي يُرسّخُ الهوية الوطنية الفلسطينية. والمعنى أن هذا التيار يرى ضرورة الاستثمار في الهامش الديمقراطي في إسرائيل، وفي الاشتغال على التناقضات الإسرائيلية، لتعزيز الحقوق المدنية والوطنية ما أمكن ذلك، مع مراعاة التفاوت في موقف الأطراف المشكلة له، بين تيار الاندماج وتيار الاستثمار. أيضا يضم هذا التيار يساريون (الحزب الشيوعي وذلك ضمن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وهي أقرب للاندماج مع التمسك بالهوية الوطنية)، وإسلاميون (الجناح الجنوبي وقد مثله في القائمة منصور عباس) وقوميون- يساريون (التجمع الوطني الديمقراطي) وهما يقولان بالاستثمار في العمل في الكنيست وفي الديمقراطية الإسرائيلية.
أما تيار الوسط، وهو يضم شخصيات من التيارات الثلاثة المذكورة، فهو يقر بأن المشاركة في انتخابات الكنيست لا تقدم شيئا للحقوق الفردية المدنية، أو للحقوق الجمعية الوطنية للفلسطينيين، إلا أنه يرى أن الانقسام من حول هذا المسألة يضعف الموقف الفلسطيني ولا يقويه. وعلى خلفية ذلك يرى هذا التيار بأن الأجدى اعتبار الانتخابات فرصة كفاحية لاستنهاض الفلسطينيين، وتعزيز هويتهم وكياناتهم، أي باعتباره وسيلة وليس كغاية، لاسيما إذا أحسنت القوى المعنية (اليسارية والقومية والإسلامية) الربط بين نشاطها من أجل حيازة مكانة في عضوية الكنيست، بالكفاح الشعبي لتأطير الفلسطينيين، وإنشاء كيانات لهم، مثلا على غرار “لجنة المتابعة العربية”، في حال تم تطويرها ومأسستها، وتشكيل هيئاتها عبر الانتخابات.
عموما، ورغم حال الانقسام أو الاختلاف فقد استطاع فلسطينيو 48 الفوز بـ15 مقعدا (للقائمة المشتركة) في الكنيست (من 120 مقعدا)، أي أنهم باتوا بمثابة الحزب الثالث فيه، بعد ليكود وحزب أزرق-أبيض، إلا أن هذا الفوز لم يجعلهم الحزب الثالث حقا، إذ وجدوا أنفسهم ككتلة في مواجهة أكثر من مئة من أعضاء الكنيست اليهود. وفي المحصلة فإن كل جهودهم من أجل الإطاحة بنتنياهو من منصبه في رئاسة الحكومة، وضمن ذلك تسميتهم منافسه بيني غانتس (رئيس حزب أزرق-أبيض) لرئاسة الحكومة آلت إلى الفشل، إذ حتى غانتس رفض هذا التنازل، وأعلن استعداده للعمل في ظل رئاسة نتنياهو للحكومة، في تأكيد على عدم السماح للفلسطينيين العرب في إسرائيل بحيازة أسباب قوة سياسية.
عموما، ذلك الاستنتاج لا علاقة له بمؤازرة أي من التيارات الثلاثة المذكورة، فهو مجرد قراءة للواقع وللتجربة، ودعوة للقوى المذكورة لاستنتاج الدروس المناسبة، بما يخص تطوير الحركة السياسية لفلسطينيي 1948، إذ أن القصة أعمق وأشمل من المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها.